عندما لا يجد حلمك سبيلاً للانطلاق

11 دقيقة
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio
كيف باستطاعة الخيال العلمي وغيره من الأدوات غير التقليدية أن تطلق العنان للمخيلة وأن تُفضي إلى إحداث طفرة في النمو؟

منذ فترة وجيزة، شكّل الرئيس التنفيذي للابتكار في إحدى الشركات الصناعية الكبيرة متعددة الأنشطة عشرة فرق عمل متعددة الوظائف ووضع أمامهم هدفاً جريئاً، وهو إعادة تصميم أعمالهم بالكامل. ولغاية تشجيع بزوغ الأفكار والنُهج الجديدة، عملت الشركة على جعل الفرق تعمل من منظور التفكير التصميمي فيما يتعلق ببحوث الزبائن والحلول النموذجية الأولية باستخدام تقنيات الشركات الناشئة الرشيقة. وقد توقع الرئيس التنفيذي للابتكار من تلك الفرق العشرة أن تعرض عليه اقتراحات تحويلية، ولكن ما حصل عليه بدلاً من ذلك هو اقتراحات من قبيل إضافة تيار بيانات متصل إلى إحدى الأدوات الصناعية. وقد جعله ذلك يشعر بصدمة كبيرة؛ أين المفاهيم الجديدة الثورية؟ لماذا لم يفكر أحد حتى في إنشاء منصة رقمية، أو إعادة تصميم نموذج الأعمال، أو إحداث تغيير جذري على المنتجات؟

تجتاح نزعة التفكير التدريجي الشركات بشتى أشكالها على الرغم من امتلاكنا لترسانة متطورة ومتنامية من أدوات الابتكار. ورغم أنّ الابتكارات التدريجية تلعب دوراً هاماً في ملف النمو للشركة، بيد أنها لن تعمل على ديمومة أي عمل تجاري على المدى الطويل. إذاً، كيف يمكن للشركات أن تبتكر شيء أعظم وأكثر جدوى؟ وما الذي يكبّل الإبداع؟ ولماذا لا تستطيع كل شركة تحقيق ما تسميه شركة جوجل: “تفكير بعشرة أضعاف” (10xthinking)؛ أفكار تدفع قدماً نحو إحداث تحسينات بمقدار عشرة أضعاف بدلاً من التحسينات المعتادة التي تحسن بنسبة 10%؟

قد نميل إلى اتهام التكنولوجيا، أو المنافسة، أو القواعد التنظيمية باعتبارها المذنبة. ولكن هذه العقبات يمكن تخطيها أكثر مما نتخيل. ففي النهاية، اعتقد الناس يوماً أنّ الهبوط على سطح القمر أمراً مستحيلاً، وأنّ التصوير الفوتوغرافي الفوري غير قابل للتطبيق، وأنّ الصواريخ الفضائية القابلة لإعادة الاستخدام لم تكن سوى ضرب من الجنون. ثم ألهم جون كينيدي أمة، وابتدع إدوين لاند كاميرا بولارويد، وأطلق إيلون ماسك شركة سبيس إكس.

فكرة المقالة بإيجاز

المشكلة

يجتاح التفكير التدريجي المؤسسات التي تبحث بجد عن إحداث طفرة في مجال الابتكار.

السبب

تشوه أشكال الانحياز المعرفي تصوراتنا بسهولة وتُعمينا عن رؤية الاحتمالات.

الحل

يمكن لطائفة متنوعة من الأساليب والأدوات أن تقاوم نزعتنا القوية لتلافي المخاطر واختيار السبل اليسيرة.

تتمثل المحدودية الحقيقية للتفكير بعشرة أضعاف في أشكال الانحياز التي تشوه تصوراتنا، وتُجهض سعينا لرؤية الاحتمالات. وقد بدأت العلوم المعرفية بكشف مساوئ أشكال الانحياز تلك والأساليب التي تجعلنا “لا عقلانيين بشكل متوقع”، وفي العديد من المجالات، مثل الاقتصاد والتسويق والاستراتيجية. أدى اتباع نهج سلوكي أكثر إلى إبطال النموذج الغالب. ولكن الثورة السلوكية لم ترسَّخ في مجال الابتكار، حيث أننا لم نتبنى الآفاق والأدوات منهجياً بعد، والتي من شأنها مساعدتنا على تحقيق قفزات كبيرة.

لدى بحثنا عن سبل جديدة، يقع معظمنا ضحية الفخاخ المعرفية التي تعزز ما يسميه الباحثون بالبحث المحلي، مثل “الانحياز نحو المتاح”، وهو نزعة الاستعانة بالبيانات المتاحة بدلاً من البيانات الممثلة؛ و”انحياز الألفة”، أي نزعة المغالاة في تقدير الأمور التي نعرفها مسبقاً؛ و”الانحياز التأكيدي”، وهو نزعة الاعتقاد بأنّ المعلومات الجديدة تقوي حجة قناعاتنا الراهنة. وبالتالي، لا نرى سوى الفرص المتعلقة بالوضع الراهن بدلاً من الفرص الأرفع قيمة، والتي تقع برمتها خارج محيط الرؤية. الهدف من هذه المقالة هو مشاركة بعض النُهج التي تساعد الشركات على تلافي الوقوع في تلك الفخاخ. وهي تختلف عن الأطر الرائجة من قبيل اتباع نهج الشركات الناشئة الرشيقة، والتطوير باتباع منهجية أجايل. والتي رغم قيمتها لا تساعد في مكافحة أشكال الانحياز؛ ما يؤدي إلى إحباط حدوث تطورات حقيقية. في الواقع، في تجربة ميدانية حديثة في كلية هارفارد للأعمال، خلص الباحثون إلى أنّ تطبيقات منهجية أجايل قد حدّت من التفكير المتباين. اطرح على نفسك السؤال التالي: هل ستؤدي برامج مراقبة الزبائن، أو اختبار إيه/بي (A/B testing)، أو العمل بطريقة سبرينت إلى تطوير الترانزيستور القادم، أو جهاز آيفون، أو شركة سبيس إكس؟ على الأرجح لا!

تقاوم جميع الطرق والأدوات التي سنتطرق إلى وصفها غريزتنا القوية لتلافي المخاطر واختيار السبل اليسيرة. وقد استخدمناها إما بغية جعل المؤسسات تدرك الفرص الأكبر، أو أننا قد واجهناها خلال بحثنا عن المبتكرين الثوريين. قائمتنا ليست جامعة البتة، ولكنها تمثل بعض السبل التي يمكن للمؤسسات الابتكارية الوصول من خلالها إلى أفكار بعشرة أضعاف. والغرض هنا ببساطة هو إلقاء الضوء على كيفية تغلب الشركات على القوى التي تحد من إمكاناتها.

الخيال العلمي

ذكرت الروائية الراحلة أورسولا لي غوين يوماً أنها كتبت قصص الخيال العلمي من أجل إعتاق عقلها – وعقل قرائها – “من عادة التفكير الخامل والوجل في أنّ أسلوب الحياة الذي نحيا وفقه اليوم هو الأسلوب الوحيد الذي من الممكن أن يعيشه الناس”. إذ يساعدنا الخيال العلمي على السفر بأذهاننا عبر الزمن، ويسمح لنا أن نحلم بما يمكن تحقيقه. انظر في بعض الابتكارات التي زعزعت حياتنا والتي تصورها الخيال العلمي أو أوحى بها، مثل الهواتف الخلوية (التي ارتكزت على أجهزة الاتصالات التي استخدمها الضباط في سلسلة ستار تريك)، وبطاقات الائتمان (وهي إحدى ملامح المجتمع المستقبلي في رواية تعود إلى القرن التاسع عشر من تأليف إدوارد بيلامي)، والروبوتات (التي ابتدعها كارل تشابيك في إحدى مسرحياته في أوائل القرن العشرين)، والسيارات ذاتية القيادة (التي توقع ابتكارها الأديب إسحاق أزيموف)، وسماعات الأذن (وهي ابتكار روائي للأديب راي برادبري)، والطاقة الذرية (التي تخيلها الروائي هربرت جورج ويلز في عام 1914). وحسبما يقول فيل ليبين، الرئيس التنفيذي السابق لشركة “إيفرنوت” (Evernote)، إنّ مفهوم برمجية تدوين الملاحظات ذاك تجلّى مباشرة من الذكاء المعزز في رواية “الكثيب” (Dune)، وعبّر عن ذلك على هذا النحو: “يمكن أن يوفر الخيال العلمي نوعاً من التفاؤل الدقيق… لا يوجد سحر، بيد أنّ الخيال العلمي يقدم الإلهام فقط، ومن ثم عليك وضع خطة دقيقة والعمل على تحقيقها”.

في مجال عملنا الاستشاري، رأينا كيف ساعد الخيال العلمي الشركات الكبرى القائمة على رؤية مستقبل جديد لأعمالها. وبالفعل، في شركة “لوز” (Lowe’s)، حيث شغل زميلنا كايل منصب الرئيس التنفيذي للابتكار، ساعد اتباع هذا النهج أعضاء الفريق التنفيذي على فهم كيفية إحداث ثورة في تجارة التجزئة، من خلال الواقع المعزّز، والروبوتات، وتكنولوجيات أخرى.

وكان ذلك في عام 2012، أي قبل أن يبصر النور كل من جهاز الواقع الافتراضي “أوكولوس ريفت” (Oculus Rift)، أو لعبة الواقع المعزز “بوكيمون غو” (Pokémon Go). وقد انطوت العملية ببساطة على إعطاء بيانات الزبائن وبيانات التكنولوجيا إلى فريق من كتّاب الخيال العلمي وطلب تخيل ما قد ستبدو عليه شركة لوز في غضون خمس إلى عشر سنوات. جمعنا بعد ذلك أفكارهم، وأدركنا أين تلاقت وجهات نظرهم وأين تباعدت، ثم دمجنا القصص ونقحناها. وأخيراً، شاركنا “الخيال التأملي” على شكل كتاب قصص مصورة مع المسؤولين التنفيذيين في لوز.

ونتيجة لذلك المشروع، أصبحت شركة لوز أول شركة في قطاع تجارة التجزئة تستخدم روبوتات مستقلة بالكامل بكفاءة لخدمة الزبائن، ولتنظيم مخزون البضائع. وأنشأت بعضاً من أول خدمات الطباعة ثلاثية الأبعاد، وساعدت على استخدام طابعة ثلاثية الأبعاد لصنع الأدوات على محطة الفضاء الدولية. كما أنها ابتكرت هياكل “إكزوسوتس” (exosuits) (هياكل روبوتية خارجية) للموظفين المختصين بتفريغ الشاحنات ونقل البضائع إلى أرضية المتاجر، وتوصلت إلى اختراع أول هاتف يدعم الواقع المعزز لتخطيط عمليات إعادة التصميم (التي بيعت بشكل مبدئي في غضون أربعة أيام). لم تحقق شركة لوز النجاح على الصعيد المالي فحسب (فقد عززت مؤهلاتها في مجال التصوير ثلاثي الأبعاد مبيعاتها عبر الإنترنت بنسبة وصلت إلى 50%)، بل إنها احتلت المركز الأول في عام 2018 في مجال الابتكار ضمن قطاع التجارة بالتجزئة بحسب تصنيف مجلة “فورتشن” (Fortune) على قائمة أكثر الشركات إثارة للإعجاب، والمرتبة الأولى في مجال الواقع المعزز بحسب مجلة “فاست كومباني” (Fast Company) على قائمة أكثر الشركات ابتكاراً.

على الرغم من أنّ التكنولوجيا تلعب دوراً كبيراً في مثال شركة لوز، بيد أنّ الابتكار لا يتمحور حول التكنولوجيا فقط. فقد استخدمنا العملية نفسها مع الأعمال التي لا تلعب التكنولوجيا فيها دوراً، وذلك من أجل مساعدة شركة بيبسي على ابتكار منتجات صحية على سبيل المثال، وشركة “فانكو” (Funko) على تصوّر كيفية التوسع إلى ما هو أبعد من عملها في مجال صناعة المجسمات.

التشبيهات

في إحدى الأمسيات، وبينما كان الفيزيائي الحائز على جائزة نوبل “فيرنر هايزنبرغ” يسير في إحدى حدائق كوبنهاغن، تجلت له رؤية شديدة الأهمية حول طبيعة الطاقة. كان الطريق الذي يمشي فيه شديد الظلمة باستثناء حلقات ضوئية تُلقي بها مصابيح الشارع على الأرض. وظهر أمامه رجل كان يمشي في الطريق تحت بقعة ضوء أسفل أحد المصابيح ثم اختفى تحت جُنح الليل إلى أن ظهر ثانية في البقعة التالية. فجأة، خلُص هايزنبرغ إلى ما يلي: إذا كان الرجل بكتلته الكبيرة يبدو أنه يختفي ويظهر ثانية، فهل يمكن للإلكترون، الذي لا كتلة له تقريباً، أن “يختفي” على نحو مماثل حتى يتفاعل مع شيء آخر؟ وفقاً للمؤلف والفيزيائي “كارلو روفيلي”، فإنّ هذه الرؤية حول كيفية تفاعل حزم الطاقة، والتي تحولت فيما بعد إلى “مبدأ اللايقين”، الذي يُعتبر من أكثر ما اشتهر به هايزنبرغ، قد عصفت بذهنه لأنه طبّق منطق التشبيه، أي من خلال المقارنة بين الرجل الذي يسير بين أعمدة الإنارة والإلكترون.

وقد أفضت التشبيهات إلى ابتكارات في قطاع الأعمال أيضاً (كما أشار “جيوفاني غافيتي” و”جان ريفكين” في مقالة لهما نُشرت عام 2005 في مجلة هارفارد بزنس ريفيو تحت عنوان: “كيف يفكر المدراء الاستراتيجيون: استخدام قوة التشبيه”). فقد أحدث “تشارلي ميريل” ثورة في قطاع الوساطة من خلال تطبيق تشبيه السوبر ماركت، ما يسمح للمتسوقين بالاختيار من بين طائفة من المنتجات والعلامات التجارية. أما شركة “سيركيوت سيتي” (CircuitCity)، التي أدخلت نهج المتاجر الكبيرة إلى مجال بيع الإلكترونيات بالتجزئة في سبعينيات القرن الماضي، فقد حوّلت قطاع السيارات من خلال تطبيق منطق مماثل (خيارات واسعة، وأسعار منخفضة ثابتة دون مساومة) على مجال بيع السيارات المستعملة، ما نتج عن ذلك ولادة شركة “كارماكس” (CarMax). وعلى الرغم من إعلان شركة “سيركيوت سيتي” إفلاسها بعد انتقالها إلى تجارة التجزئة عبر الإنترنت، أصبحت شركة “كارماكس” الآن أكبر متجر تجزئة لبيع السيارات المستعملة في العالم.

يمكن أن تساعدنا التشبيهات المأخوذة من مجالات مختلفة أحياناً على تحقيق قفزات كبيرة، فالنمو السريع لشركتي “أوبر” (Uber) و”إير بي إن بي” (Airbnb) على سبيل المثال، بشّر بظهور أعمال مماثلة تطبق مفهوم “الاقتصاد التشاركي”، وذلك من السيارات الترفيهية مثل منصة “آر في شير.كوم” (RVshare.com)، إلى المستودعات مثل منصة “نيبور” (Neighbor)، وإيصال مواد البقالة مثل منصة “إنستاكارت” (Instacart). وهناك أسلوب آخر من أجل تنشيط تفكيرك وهو استخدام التشبيه الذي ينطوي على كيفية عدم فعل أمر ما، فمثلاً، ما هي الطريقة التي لن تتبعها شركة جوجل أبدا؟ ويمكنك أيضاً استخلاص الدروس من الإخفاقات، على سبيل المثال، ما هو النهج الذي اتبعته تلك الشركة وجعلها تخطئ الهدف الذي تسعى لأجله؟

منطق الأسس الأولية

حازت شركة “ريجينيرون فارماسيوتيكالز” (RegeneronPharmaceuticals) على شهرة من خلال تطويرها لعلاجات جديدة بتكلفة تبلغ نسبة ضئيلة من تلك التي يتكبدها المنافسون. ويكمن نهج “الأسس الأولية” في صميم عملية الابتكار الذي يُشكك في الوضع الراهن من خلال إعادة النظر في الأسس الأساسية حول أمر ما، ثم إعادة تصميمه من نقطة الصفر. فحسبما يقول “جورج يانكوبولوس”، رئيس مجلس إدارة شركة ريجينيرون والرئيس التنفيذي للعلوم: “إننا نتحدى كل شيء؛ كل مفهوم وكل مبدأ علمي، ونناقشه فيما بيننا”. على سبيل المثال، أثارت الشركة تساؤلات حول النموذج السائد لاختبار العلاجات الجديدة التي يجري اختبارها أولاً على الفئران ثم على البشر، الأمر الذي يؤدي غالباً إلى ارتفاع نسب الفشل بسبب الاختلاف الكبير بين الفئران والبشر. لذلك، سعى يانكوبولوس وفريقه إلى إعادة ابتكار العملية من خلال تطوير فأر زُرع بداخله جينات بشرية من أجل محاكاة الاستجابات البشرية بشكل أدق. وقد مكنت الفأرة المعدلة شركة ريجينيرون من تطوير عقاقير جديدة بأقل من 20% من متوسط ​​كلفة تطوير العلاجات الجديدة البالغة 4.3 مليار دولار.

كما أبصر الصاروخ القابل لإعادة الاستخدام من شركة سبيس إكس النور من خلال تطبيق نهج مماثل للأسس الأولية، إذ أراد مؤسس الشركة “إيلون ماسك” شراء صواريخ غير مستخدمة من الروس، ولكن طلبه قوبل بالرفض. وكما يروي “آشلي فانس” في كتابه “إيلون ماسك: تيسلا وسبيس إكس والبحث عن مستقبل رائع” (Elon Musk: Tesla, SpaceX, and the Quest for a Fantastic Future)، كان ماسك يجري عمليات حسابية بغضب على جدول بيانات وهو على متن رحلة العودة من روسيا، عندما التفت إلى “مايكل غريفين”، مدير وكالة ناسا المستقبلي، و”جيم كانترل”، أحد المؤسسين التنفيذيين في شركة سبيس إكس، وقال “أعتقد أنه يمكننا بناء هذا الصاروخ بأنفسنا”. ويستذكر كانترل القول: “نحن نفكر، ’نعم، ولكن ذلك ليس منطقياً‘”. غير أنه بعد قراءة أساسيات تشغيل محركات الدفع والديناميكا الهوائية والديناميكا الحرارية والتوربينات الغازية، كان مسك يفكك الصواريخ إلى أسسها الرئيسة على جدول بياناته. ومع ذلك التحليل، توصل فريقه إلى طريقة لتطوير صواريخ معقولة التكلفة وقابلة لإعادة الاستخدام من خلال استعمال مكونات أبسط من الصنف التجاري بدلاً من الصنف الفضائي ضمن هيكل أصغر. وقد أجرت شركة سبيس إكس اليوم أكثر من 60 رحلة فضائية ناجحة، و29 عملية هبوط ناجحة ووفرت على وكالة ناسا، زبونها الرئيس، مئات الملايين من الدولارات. وحسبما يقول ماسك: “في معظم الحالات، يحل الناس المشكلات من خلال تقليد ما يفعله الآخرون مع فروقات طفيفة. أما بالنسبة لي، فأنا أعمل على نهج التحليل الفيزيائي من خلال الأسس الأولية، حيث يمكنك اختزال الأمور إلى الحقائق الأساسية في مجال معين، ومن ثم بناء استنتاجاتك المنطقية انطلاقاً من ذلك”.

استكشاف المجاورات باستخدام التكيف المسبق

بينما تسعى للوصول إلى الابتكارات، فإنّ طائفة الفرص المتاحة تحددها دائماً العناصر التي تبدأ بها. وهو مفهوم وصفه عالم الأحياء “ستيوارت كوفمان” في نظريته “المجاور الممكن”. ولكننا نميل إلى رؤية الاستخدامات أو التشكيلات الجديدة لتلك المكونات الواضحة فقط. ويكمن سر تجنب حدوث ذلك في استكشاف استخدامات مختلفة بالكامل. في علم الأحياء التطوري، يحدث هذا في عملية تدعى التكيف المسبق، حيث يتم تكييف سمة مميزة لأحد الأغراض جانبياً من أجل استخدام آخر تماماً. على سبيل المثال، أصبح الريش، الذي ربما كانت وظيفته الأولية توفير الدفء أو جذب الرفاق بهدف التزاوج، الجزء الذي أعطى الطيور القدرة على الطيران. وعلى نحو مماثل، تطورت عظام الفك المتشابكة للأسماك الأولى، التي أصبحت مخلوقات برية، إلى آذان. إذا كان التكيف ينجح في العالم البيولوجي دون أي وساطة بشرية، فإنه لا حصر لفرص التكيف في عالم من الخيارات والخيال.

إذاً كيف يمكن للمبتكرين استغلال قوة التكيف المسبق؟ يمكنهم البدء عن طريق السؤال حول سبب استخدامنا لشيء معين من أجل غرض ما وليس لغيره. على سبيل المثال، بعد أن فقد “فان فيليبس” ساقه إثر حادث تزلج على الماء، درس الهندسة الطبية الحيوية ليتعلم كيفية تصميم الأطراف الاصطناعية. وقد فوجئ عندما اكتشف أنّ تصميم الطرف الاصطناعي لم يتغير سوى قليلاً منذ الحرب العالمية الثانية. وعندما اكتشف السبب، علم أنّ المصممين قد انصب تركيزهم على النواحي الجمالية ما يجعل الطرف الاصطناعي يشبه القدم. إلا أنّ فيليبس طرح التساؤل التالي: لماذا يجب أن يشبه القدم؟ ماذا لو جسد الخصائص الأساسية لأداء وظيفة القدم؟ ثم استخلص أفكاراً مستوحاة من لعبة القفز بالزانة (الوثب الطويل)، وألواح الغطس، وأقدام الفهود، وابتكر الطرف الصناعي “فليكس فوت” (Flex-Foot)، وهو طرف اصطناعي لا يشبه القدم أبداّ، ولكنه يمنح مرتديه حرية أكبر بكثير أثناء الحركة (يستخدم معظم المشاركين في الألعاب الأولمبية للمعوقين شكلاً من أشكاله). فمن خلال إعادة النظر في الغرض من الأطراف الاصطناعية، أحدث فيليبس ثورة في هذا المجال.

يطبق جيف بيزوس نوعاً مماثلاً من التفكير في شركة أمازون، إذ أنه يشجع الفرق على البحث على نطاق أوسع من أجل استكشاف استخدامات جديدة لإمكاناتهم الراهنة، أو طرائق جديدة من أجل إيجاد حلول لمشكلات الزبائن الحاليين. ويقول: “إذا كنت تتحدث حول كيفية اختيار المجاورات التي ستنتقل إليها، فنحن نفعل ذلك من خلال طريقتين، وهما العمل رجوعاً للوراء انطلاقاً من حاجات الزبون، والعمل إلى الأمام انطلاقاً من المهارات الموجودة لدينا”. ولقد وُلدت خدمات الويب المقدمة من أمازون (AWS)، وهي إحدى أكثر الأعمال المربحة للشركة، من رحم نهج العمل إلى الأمام انطلاقاً من المهارات. ويقول بيزوس: “مع خدمات أمازون ويب كان علينا استقطاب طائفة جديدة من الزبائن، ولكن كان لدينا مهارات استثنائية داخل الشركة في مجال الحوسبة الموزعة”. أما “أمازون كيندل” (Amazon Kindle) فقد كان نتاج النهج الآخر، ويردف قائلاً: “مع كيندل لم نكن نتمتع بالخبرة المناسبة في مجال الأجهزة الإلكترونية، أي أننا لم نمتلك المهارات، لكن كان لدينا حاجة الزبون”.

إنّ الهدف من عرض نُهج الابتكار الأربعة هذه هو زعزعة تفكيرنا، ومساعدتنا على تجاوز نزعتنا الفطرية نحو التشبث بما نعرفه، أي لتفادي أشكال الانحياز المعرفي لدينا. وهناك بالتأكيد تقنيات أخرى، إذ تطلب شركة أمازون، على سبيل المثال، من موظفيها كتابة تقارير صحفية يقدمون من خلالها منتجاً وهمياً جديداً إلى السوق. يشجعهم هذا النهج على تصور ما يمكن أن تكون عليه العروض الجديدة في غضون سنوات قليلة. وقد يساعدك هذا التكتيك أيضاً في حياتك المهنية، إذ يمكنك في شهر يناير/كانون الثاني كتابة بطاقات عيد الميلاد واصفاً من خلالها ما ستكون قد أنجزته بحلول شهر ديسمبر/كانون الأول. كما أنّ هناك أدوات تدعم إحرازك للتقدم؛ فيمكنك على سبيل المثال ابتكار “مسار من الأدوات”، مجموعة من الإنجازات الصغيرة التي تقودك إلى رؤيتك، والتي يمكنك البدء في بنائها على الفور، أو تطبيق عمليات تصميم تجريبية (أي تخطيط دراسة من أجل تحقيق أهداف محددة) لمعرفة ما إذا كنت تسير نحو الاتجاه الصحيح. أياً كانت الأطر أو النُهج التي تستخدمها، فإنّ الغرض هو التركيز على ما يمكن تحقيقه، إذ غالباً ما يقع المبتكرون الصاعدون في فخ تفاصيل ما يصدف أنه متوفر اليوم ويخففون من حدة أفكارهم لكي يبدوا أكثر قبولاً. ولكن من أجل بلوغ درجة التفكير بعشرة أضعاف، ينبغي علينا التحرر من التدرجية، ومواجهة الخوف من الفشل، ولتكن حدودك السماء!

بالنظر إلى “أينشتاين”، وبينما كان يسابق “ديفيد هيلبرت”، أحد علماء الرياضيات اللامعين، لغاية توضيح نظرية النسبية العامة، كان يجد أينشتاين صعوبة في وضع إطار للعمليات الرياضية المحددة لوصف نظريته. فقد عرض أفكاره كل أسبوع، وفي كل أسبوع كانت العمليات الحسابية مختلفة. وكما يروي “كارلو روفيلي”، فإنّ هيلبرت كان يتفاجأ من الصعوبات التي واجهت أينشتاين فيما يتعلق  بالتفاصيل، وعبّر عن ذلك بقوله: “كل فتى في شوارع مدينة غوتنغن يفهم في مجال هندسة البعد الرابع أكثر من أينشتاين”. ومع ذلك، كما أشار هيلبرت نفسه، كان أينشتاين أول من وجد حلاً للمشكلة. ولكن لماذا؟ من وجهة نظر روفيلي: “لأنّ أينشتاين يتمتع بقدرة فريدة على تخيل كيف يمكن بناء العالم، أن يكون قادراَ على تصوره في دماغه”.

نحن لا ندعي أننا وجدنا جميع الطرق التي تمكننا من ابتكار أفكار بعشرة أضعاف، ولكننا نؤمن بأنّ الشركات بحاجة إلى اتباع نهج جديدة من أجل بلوغ مثل تلك الاستكشافات على نحو أكثر فاعلية. وقد وصفنا طائفة منها من خلال هذه المقالة. ونحن نؤمن أيضاً بأنّ الوقت قد حان لإحداث ثورة سلوكية في مجال الابتكار؛ فمن خلال تناول العلوم المعرفية على محمل الجد، يمكننا أن نكسر الأغلال التي تحد من رؤيتنا. وإذا تساءلت حول مدى أهمية ذلك؟ نجيبك بأننا نفتقر إلى وجود مستقبل موضوعي يلوح لنا في الأفق والذي ننتظر وصوله في أحد الأيام، بل يوجد لدينا فقط المستقبل الذي نخلقه.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .