ما هي الاستراتيجية؟

50 دقيقة
ما هي الاستراتيجية
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

أولاً: الفعالية التشغيلية ليست استراتيجية

منذ ما يقارب العقدين من الزمن والمدراء يحاولون الإجابة عن سؤال ما هي الاستراتيجية من أجل تعلّم كيفية العمل وفق مجموعة جديدة من القواعد. فالشركات يجب أن تتحلّى بالمرونة كي تتمكّن من الاستجابة السريعة للتغيّرات الحاصلة في المنافسة والأسواق؛ وهي مضطرة على الدوام إلى مقايسة أدائها مع أداء الآخرين لضمان تطبيق الممارسات الفضلى في العمل؛ كما يتعيّن عليها أن تسعى بجدّ للاستعانة بمصادر خارجية لكي تضمن تحقيق الكفاءة في العمل؛ ويتوجّب عليها كذلك تنمية بعض كفاءاتها الأساسية لتظل متفوّقة في سباقها مع منافسيها.

وبالتالي فإن “التموضع في السوق” (Positioning) – والذي كان، ذات يوم، يشكّل صميم الاستراتيجية– بات الآن مرفوضاً لأن جموده لا يتناسب مع ديناميكية أسواق اليوم ولا مع التغيّرات التكنولوجية السريعة. وبحسب المعتقد الجديد، فإن المنافسين قادرون على استنساخ أي موضع (Position) في السوق بسرعة، والميزة التنافسية، في أحسن الأحوال، مؤقتة.

اقرأ أيضاً: 5 استراتيجيات لإيجاد مكان عمل يحتضن الجميع

لكن هذه المعتقدات عبارة عن أنصاف حقائق خطرة، وهي تقود عدداً أكثر فأكثر من الشركات في طريق المنافسة المدمّرة. صحيح أن بعض العوائق أمام المنافسة قد أخذت تتهاوى بعد أن بتنا نرى تسهيلاً في الأنظمة والقوانين، وباتت الأسواق عالمية الطابع؛ وصحيح أن الشركات قد استثمرت طاقتها بشكل صحيح جعلها أكثر رشاقة وسرعة في التحرك، إلا أن ما نراه في عدد من القطاعات، ويسمّيه البعض “منافسة محتدمة”، ما هو إلا ضرب من الأذى الذاتي الذي تلحقه هذه القطاعات بنفسها، وليس المحصلة الحتمية لنموذج متغيّر في المنافسة.

ما هي الاستراتيجية بشكل دقيق؟

إن الإخفاق في التمييز بين الفعالية التشغيلية والاستراتيجية هو جذر المشكلة. فقد أسفرت الجهود الحثيثة لتحقيق الإنتاجية، والجودة، والسرعة، عن انتشار عدد هائل من أدوات الإدارة وتقنياتها مثل: إدارة الجودة الشاملة، والمقايسة، والمنافسة القائمة على أساس الوقت، والاستعانة بجهات خارجية، والشراكات، وإعادة الهندسة، وإدارة التغيير. وعلى الرغم من أن التحسينات التشغيلية التي نتجت عن ذلك كانت في غالب الأحيان هائلة، إلا أن العديد من الشركات أصيبت بالإحباط جرّاء عدم قدرتها على ترجمة هذه المكاسب إلى ربحية مستدامة. ورويداً رويداً أخذت أدوات الإدارة، وبصورة غير ملحوظة تقريباً، تحلّ محلّ الاستراتيجية. وبينما كان المدراء يضغطون لتحقيق التحسينات على جميع الجبهات، كانوا يبتعدون عن تموضعهم التنافسي المُجدي.

الفعالية التشغيلية: شرط لازم وغير كافٍ. إن الفعالية التشغيلية والاستراتيجية، كلتيهما، ضروريتان لتحقيق الأداء الفائق الذي يعتبر، في نهاية المطاف، الهدف الرئيسي لأي مشروع؛ لكنهما تعملان وفق آليتين مختلفتين بالكامل.

فلن يكون بإمكان أي شركة التفوّق في الأداء على منافسيها إلا إذا تميّزت عنهم بفرقٍ واستطاعت الحفاظ عليه. فهي يجب أن تقدّم للزبائن قيمة أكبر من القيمة التي يقدّمها منافسوها، أو توفر لهم قيمة مشابهة بتكلفة أقل، أو تفعل الأمرين معاً. وبعد ذلك تأتي حسابات الربحية العالية: فالقيمة الأكبر تسمح للشركة برفع متوسّط سعر الوحدة؛ والكفاءة الأكبر تؤدي إلى خفض متوسط تكلفة الوحدة.

وفي النهاية، فإن جميع الفروق في التكلفة أو السعر بين شركة وأخرى تأتي من مئات النشاطات المطلوبة من أجل ابتكار، وإنتاج، وبيع، وتسليم منتجاتها أو خدماتها، مثل الاتصال بالزبائن، وتجميع المنتجات النهائية، وتدريب الموظفين. وتنتج التكلفة عن أداء هذه النشاطات، بينما تأتي ميزة التكلفة من إنجاز نشاطات معيّنة بكفاءة أكبر من بقية المنافسين. وبصورة مشابهة، فإن التمايز بين الشركات ينشأ من اختيار النشاطات وكيفية أدائها. إن النشاطات إذن هي الوحدات الأساسية للميزة التنافسية. وينجم وجود الميزة الإجمالية، أو غيابها، عن جميع نشاطات الشركة، وليس عن بضعة نشاطات فقط 1.

اقرأ أيضاً: كيف يمكنك أن تتطور في معمعة عملية الاندماج والاستحواذ؟.

تُعرّفُ الفعالية التشغيلية على أنها أداء نشاطات مماثلة لنشاطات المنافسين بأفضل مما يؤدونها. وتشمل الفعالية التشغيلية الكفاءة، لكنها لا تقتصر عليها، بل تشير إلى أي عدد من الممارسات التي تسمح لشركةٍ ما أن تستغل مُدخلاتها استغلالاً أفضل، من خلال أمور تشمل مثلاً تقليل العيوب في المنتجات، أو تطوير منتجات أفضل بوتيرة أسرع. وفي المقابل، فإن التموضع الاستراتيجي يعني إنجاز نشاطات مختلفة عن نشاطات المنافسين، أو إنجاز نشاطات مماثلة بطرق مختلفة.

إن التباينات في الفعالية التشغيلية بين الشركات، عامةٌ وواسعة الانتشار. فبعض الشركات قادرة على الاستفادة بقدر أكبر من مُدخلاتها، بالمقارنة مع الشركات الأخرى، لأنها تحدّ من الجهود الضائعة، أو توظّف تقنية أكثر تقدّماً، أو تقدّم حوافز أفضل للموظفين، أو تمتلك خبرة أكبر في إدارة نشاطات معيّنة أو مجموعة من النشاطات. وتعتبر هذه التباينات في الفعالية التشغيلية مصدراً هامّاً للتباينات في الربحية بين المنافسين، لأنها تؤثر مباشرة على درجات التكلفة النسبية وعلى مستويات التمايز.

التموضع الاستراتيجي

لقد كانت التباينات في الفعالية التشغيلية في صميم التحدّي الياباني للشركات الغربية في الثمانينات من القرن العشرين. فاليابانيون كانوا قد قطعوا أشواطاً كبيرة في التقدّم على  منافسيهم في الفعالية التشغيلية مكّنتهم من توفير منتجات بتكلفة أقل وجودة أرفع بكثير في الوقت ذاته. ويجدر التوسّع بعض الشيء في شرح هذه النقطة، لأن الكثير من الأفكار القائمة حالياً بخصوص المنافسة تعتمد عليها. دعونا نتصوّر حدوداً قصوى للإنتاجية (Productivity Frontier) مكوّنة من مجموع أفضل الممارسات القائمة في وقت محدد، ولنفكر فيها بوصفها القيمة القصوى التي يمكن لشركة تقدّم منتجاً أو خدمة معيّنين أن تحقّقها بتكلفة محددة، باستعمال أفضل ما يمكن من تكنولوجيا ومهارات وتقنيات إدارية ومُدخلات مشتراة. هذه القدرة الإنتاجية القصوى يمكن أن تنطبق على نشاطات إفرادية، أو على مجموعات مترابطة من النشاطات، مثل معالجة الطلبية وتصنيعها، أو على نشاطات الشركة برّمتها. وعندما تحسّن شركة ما فعاليتها التشغيلية، فإنها تدفع هذه الحدود القصوى إلى الأمام. لكن فعل ذلك قد يحتاج إلى استثمار في رأس المال، أو إلى مجموعة مختلفة من العاملين، أو إلى طرق جديدة في الإدارة فحسب.

فكرة المقالة باختصار

تُعتبر المجموعة الهائلة من النشاطات الهادفة إلى خلق أحد المنتجات أو الخدمات، ثم إنتاجه، وبيعه، وتسليمه بمثابة الوحدات الأساسية للميزة التنافسية. والفعالية التشغيلية تعني إنجاز هذه النشاطات بشكل أفضل – أي بطريقة أسرع، أو باستعمال عدد أقل من المدخلات وبعدد أقل من العيوب – وذلك بالمقارنة مع المنافسين. وبوسع الشركات كسب عدد هائل من الميزات من الفعالية التشغيلية كما أظهرت الشركات اليابانية في عقدي السبعينيات والثمانينيات من القرن العشرين من خلال استعمالها لممارسات من قبيل إدارة الجودة الشاملة والتحسين المتواصل. ولكن من وجهة نظر تنافسية، تكمن مشكلة الفعالية التشغيلية في أن الممارسات الفضلى يمكن أن تُقلّد بسهولة. ومع تبنّي كل المتنافسين في صناعة معيّنة لهذه الممارسات، فإن الحدود القصوى للإنتاجية – أي القيمة القصوى التي يمكن لشركة أن تحققها بتكلفة معيّنة، وباستعمال أفضل تكنولوجيا، ومهارات، وتقنيات إدارة متاحة – تتحوّل نحو الخارج، ممّا يؤدّي إلى تخفيض التكاليف وتحسين القيمة في الوقت ذاته. هذه المنافسة تنتج تحسّناً مطلقاً في الفعالية التشغيلية، لكنها لا تنتج أي تحسّن نسبي لدى أيٍّ كان. وكلّما أمعنت الشركات في استعمال المقايسة مع الآخرين، كلّما ازداد التقارب التنافسي – أي كلّما باتت الشركات أكثر تشابهاً فيما بينها بحيث يصبح المرء أقل قدرة على التمييز بين الواحدة والأخرى.

يحاول التموضع الاستراتيجي (Strategic Positioning) تحقيق ميزة تنافسية مستدامة من خلال المحافظة على الجانب الذي تتميّز فيه الشركة. وهو يعني أداء نشاطات مختلفة عن النشاطات التي يؤدّيها المنافسون، أو ممارسة نشاطات مشابهة لنشاطاتهم وإنما بطرق مختلفة.

اقرأ أيضاً: 5 قواعد بسيطة لتنفيذ الاستراتيجية

تشهد الحدود القصوى للإنتاجية تحوّلاً دائماً نحو الخارج مع تطوير تكنولوجيات ومنهجيات جديدة في الإدارة وتوفّر مدخلات جديدة. فالكمبيوترات المحمولة، والاتصالات الخليوية، والإنترنت، والبرمجيات مثل (Lotus Notes)، على سبيل المثال، أعادت تعريف الحدود القصوى للإنتاجية بالنسبة لعمليات فريق المبيعات، وخلقت إمكانيات غنيّة لربط نشاط المبيعات مع نشاطات أخرى مثل معالجة طلبية الزبون وخدمة ما بعد البيع. وبصورة مشابهة، فقد سمح ما يُسمى الإنتاج الرشيق أو المقتصِد (Lean Production)، والمشتمل على مجموعة مترابطة من النشاطات، بإدخال تحسينات هائلة على إنتاجية التصنيع والاستفادة من الأصول.

ومنذ عقد من الزمن على أقل تقدير، انشغل المدراء بتحسين الفعالية التشغيلية. فمن خلال برامج مثل إدارة الجودة الشاملة، والمنافسة المستندة إلى الوقت، والمقايسة، غيّروا طريقة أدائهم للنشاطات من أجل القضاء على عدم الكفاءة، وتحسين رضى الزبائن، والوصول إلى الممارسات الأفضل. وعلى أمل الإبقاء على التحوّلات الحاصلة في الحدود القصوى للإنتاجية، تبنّوا بقوّة مفاهيم التحسين المتواصل، والتمكين، وإدارة التغيير، وما يُسمى “المنظمة دائمة التعلّم”. كما أن الشعبية التي يحظى بهما مفهوما “تعهيد” المهام إلى جهات خارجية (Outsourcing) والمؤسسة الافتراضية (virtual corporation)، تعكس الاعتراف المتنامي بأنه من الصعوبة بمكان أداء جميع النشاطات بإنتاجية عالية كما يفعل المتخصصون.

لمحة

كيف تستفيد عملياً من المقالة؟

1. الاستراتيجية تعني خلق موضع فريد أو قيّم للشركة يشمل مجموعة مختلفة من النشاطات.

ينشأ التموضع الاستراتيجي من ثلاثة مصادر متميّزة:

تلبية احتياجات قليلة لزبائن كثيرين (“جيفي لوب” يوفّر نوعاً واحداً من زيوت السيارات).

تلبية مجموعة واسعة من الاحتياجات لزبائن قليلين (صندوق “بيسيمر” لا يستهدف إلا الزبائن الشديدي الثراء).

تلبية الاحتياجات العريضة لزبائن كثيرين ضمن سوق ضيّقة (“كارمايك” تدير صالات للسينما في المدن التي يقلّ عدد سكّانها عن 200 ألف نسمة).

2. الاستراتيجية تستدعي إجراء مُعَاوَضَات أثناء المنافسة – أي اختيار ما لا يجب فعله.

بعض النشاطات التنافسية غير متناغمة مع بعضها البعض؛ وبالتالي فإن المكاسب في مجال معيّن لا يمكن أن تتحقق إلا على حساب مجال آخر. فعلى سبيل المثال، اتخذت شركة “نتروجينا” للصابون لنفسها موضعاً بوصفها أقرب إلى مُنْتِجٍ للمواد الطبية منها إلى مُنْتِجٍ لمواد التنظيف. والشركة ترفض أي مبيعات تقوم على إضافة مزيلات لرائحة العرق، وتتخلّى عن أي أحجام كبيرة في الإنتاج، وتضحّي بالكفاءة في الإنتاج. لكن في المقابل، مثّل قرار “مايتاغ” بتوسيع خط منتجاتها والاستحواذ على أصناف تجارية أخرى فشلاً في إجراء مُعَاوَضَات صعبة: فتعزيز الإيرادات جاء على حساب العوائد على المبيعات.

3. الاستراتيجية تتضمّن إيجاد “تلاؤم” بين نشاطات الشركة.

يتعلّق التلاؤم بالطرق التي تتفاعل بها نشاطات الشركة فيما بينها وكيف يعزّز الواحد منها بقية النشاطات. فعلى سبيل المثال، تصمّم مجموعة “فانغارد” كل نشاطاتها بحيث تخدم استراتيجيتها المتركّزة على التكلفة المنخفضة. وهي توزّع الأموال مباشرة إلى المستهلكين وتقلّل من التقلّب في المحافظ المالية. ويعتبر التلاؤم محرّكاً لكل من الميزة التنافسية والاستدامة: فعندما تعزّز النشاطات بعضها بعضاً، لن يكون المنافسون قادرين على تقليدها بسهولة. عندما قرّرت “كونتيننتال لايت” تقليد عدد من نشاطات شركة “ساوث ويست” للطيران، وليس كل نظام النشاطات المتداخلة بأكمله، كانت النتائج كارثية.

يحتاج الموظفون إلى الإرشاد بخصوص كيفية تعميق موضع استراتيجي معيّن عوضاً عن توسيعه أو تعريضه لخطر التنازلات. كما يحتاجون إلى الإرشاد بخصوص كيفية توسيع فرادة الشركة مع العمل في الوقت ذاته على تعزيز التلاؤم بين نشاطاتها. وهذا العمل المرتبط باتخاذ قرار بخصوص أي من مجموعات الزبائن أو الاحتياجات يجب أن استهدافها، يحتاج إلى الانضباط، والقدرة على رسم الحدود، والتواصل الواضح والمباشر. ومن الجلي تماماً أن ثمّة ترابطاً وثيقاً للغاية بين الاستراتيجية والقيادة.

ومع سعي الشركات للوصول إلى الحدود القصوى للإنتاجية، أصبح باستطاعتها غالباً إدخال تحسينات على أبعاد متعدّدة للأداء في الوقت ذاته. ومثال على ذلك هو أن المصنّعين الذين تبنّوا الممارسة اليابانية في التغيير الكلي والانتقال من نظام إلى آخر في ثمانينات القرن العشرين، قد تمكنوا من تخفيض التكلفة وتحسين التمايز في الآن نفسه. وما كان يُعتقد يوماً أنها مُعَاوَضَات (Tradeoffs) حقيقية – كالاختيار بين العيوب في الإنتاج أو التكاليف مثلاً– اتّضح أنها أوهام خلقتها الفعالية التشغيلية الضعيفة. وقد تعلّم المدراء كيف يرفضون تلك المُعَاوَضَات المزيّفة.

إن التحسين المتواصل في الفعالية التشغيلية ضروري لتحقيق الربحية العالية، لكنه ليس كافياً عادة. إذ إن قلّة من الشركات فقط ظلّت تنافس بنجاح على أساس الفعالية التشغيلية لفترة طويلة من الزمن. فالمحافظة على التفوّق على المنافسين باتت أصعب يوماً بعد يوم، والسبب الأوضح لذلك هو الانتشار السريع للممارسات الفضلى. فالمنافسون قادرون على التقليد السريع لتقنيات الإدارة، والتكنولوجيات الجديدة، والتحسينات المحققة على المُدخلات، وأفضل الطرق لتلبية احتياجات الزبائن. كما أن الحلول الأكثر عمومية، والتي يمكن استعمالها في مجالات متعدّدة – هي الأسرع انتشاراً. ولنشاهد التزايد السريع والواسع لتقنيات الفعالية التشغيلية بدعم من الاستشاريين.

إن المنافسة في مجال الفعالية التشغيلية تدفع الحدود الإنتاجية القصوى نحو الخارج، ممّا يعني عملياً رفع سقف السوية المطلوبة من الجميع. ولكن على الرغم من أن مثل هذه المنافسة تنتج تحسّناً مطلقاً في الفعالية التشغيلية، إلا أنها لا تقود إلى تحسّن نسبي لدى أيّ كان. ولنأخذ على سبيل المثال صناعة الطباعة التجارية في الولايات المتّحدة والتي تزيد قيمتها على 5 مليارات دولار. اللاعبون الأربعة الكبار فيها: “شركة آر. آر. دونيلي وأبناؤه” (R.R. Donnelley & Sons Company)، و”كويبيكور” (Quebecor)، و”ورلد كولور برس” (World Color Press)، و”بيغ فلاوار برس” (Big Flower Press) تتنافس تنافساً مباشراً، فتوفّر خدماتها لجميع أنماط الزبائن، وتقدّم المجموعة ذاتها من تقنيات الطباعة (أي الطباعة الغائرة واللوحية -الأوفست)، وتقوم باستثمارات ضخمة في المعدّات الجديدة ذاتها، وتدير مطابعها بوتيرة أسرع، وتخفض حجم الموظفين. غير أن الأرباح الإنتاجية الكبرى تذهب إلى الزبائن ومورّدي الآلات، ولا يُحتفظ بها كربحية عالية. وحتى هوامش أرباح شركة “دونيلي” (Donnelley) الرائدة في هذا المجال، والتي كانت دائماً تزيد على 7 % في ثمانينيات القرن العشرين، تراجعت إلى أقل من 4.6% عام 1995. ونجد هذا النمط يكرّر ذاته في صناعة تلو الأخرى. وحتى اليابانيون، وهم روّاد المنافسة الجديدة، يعانون من الانخفاض المستمر في الأرباح (راجع الفقرة الجانبية المُعنونة: “الشركات اليابانية نادراً ما يكون لديها استراتيجيات”).

أمّا السبب الثاني الذي يثبت أن تحسين الفعالية التشغيلية غير كافٍ –التقارب التنافسي – فهو أكثر غموضاَ وقدرة على الخداع. فكلّما لجأت الشركات إلى المزيد من المقايسة وتوفير المواصفات المعيارية، كلّما باتت أكثر تشابهاً فيما بينها. وكلما لجأ المتنافسون إلى زيادة تعهيد النشاطات إلى أطراف ثالثة كفوءة- وغالباً ما تكون هي ذاتها- كلّما أصبحت هذه النشاطات أكثر عمومية. ومع تزايد اعتماد المتنافسين على تقليد بعضهم بعضاً في مجال التحسينات المدخلة على الجودة، أو على زمن دورة الإنتاج، أو على الشراكات مع المورّدين، فإن الاستراتيجيات تتقارب، وتغدو المنافسة سلسلة من السباقات التي تجري على مسارات متطابقة، والتي لا يمكن لأحد أن يفوز بها. فالمنافسة التي تقوم على الفعالية التنافسية وحدها تدمّر جميع المتنافسين، وتقود إلى حروب استنزاف لا يمكن وقفها إلا بالحدّ من هذه المنافسة.

إن الموجة المستجدّة من تعزيز الصناعة عبر عمليات الاندماج بين الشركات، تعتبر أمراً منطقياً في سياق المنافسة في الفعالية التشغيلية. فاستمرار الشركات في العمل مدفوعة بضغوط الأداء مع غياب الرؤية الاستراتيجية لم يترك لها، واحدة تلو الأخرى، من خيار سوى شراء منافساتها. فمن بقي في الساحة من المنافسين هي الشركات التي تفوّقت على غيرها، لا الشركات التي تمتلك ميزات تنافسية حقيقية.

بعد عقد من المكاسب الملفتة التي سجّلتها شركات عديدة في الفعالية التشغيلية، تشهد هذه الشركات تناقصاً في الإيرادات. ففكرة التحسين المتواصل قد حُفِرت في أذهان المدراء بعمق؛ لكن أدواته، وعن غير قصد، تجرّ الشركات نحو التقليد والتجانس. والنتيجة؟ منافسة يخرج الجميع منها خاسراً، وأسعار ثابتة أو متراجعة، وضغط التكاليف تحدّ من قدرة الشركات على الاستثمار في الأعمال على المدى البعيد.

ثانياً: الاستراتيجية تتوقّف على النشاطات الفريدة والمُميِّزة

تقوم الاستراتيجية التنافسية على كون الشركة مختلفة عن غيرها. وهي تعني تعمّد اختيار الشركة لمجموعة مختلفة من النشاطات من أجل تقديم توليفة فريدة من القيمة.

فشركة “ساوث ويست أيرلاينز” (Southwest Airlines Company)، على سبيل المثال، توفّر رحلات مباشرة ولمسافات قصيرة وبتكلفة منخفضة بين المدن المتوسطة الحجم والمطارات الثانوية في كبريات المدن. وتتجنّب “ساوث ويست” المطارات الكبيرة، ولا تطير مسافات بعيدة جداً. وتضمّ قائمة زبائنها المسافرين في رحلات عمل، والعائلات، والطلاب. وتجتذب الرحلاتُ المتواترة لساوث ويست، وأسعارُها المنخفضة، الزبائنَ الذين يُبدون حساسية تجاه الأسعار، والذين يفضّلون عادة السفر بالحافلة أو السيارة، وكذلك المسافرين الذين يحبّذون الراحة الشخصية ويختارون شركات الطيران التي تقدّم خدمات كاملة على خطوط السفر الأخرى.

الربط مع الاستراتيجيات العمومية

في كتابي “الاستراتيجية التنافسية” (Competitive Strategy) (الصادر عن ذي فري برس عام 1985)، طرحتُ مفهوم الاستراتيجيات العمومية – الريادة في التكلفة، والتمايز، والتركيز – لتمثّل المواضع الاستراتيجية البديلة في صناعة معيّنة. وتظل الاستراتيجيات العمومية مفيدة لتوصيف المواضع الاستراتيجية على أبسط وأعرض مستوى. فشركة “فانغارد”، مثلاً، هي نموذج لاستراتيجية الريادة في التكلفة، بينما تشكّل إيكيا، التي تركّز على مجموعة ضيّقة من الزبائن، نموذجَ التركيز المستند إلى التكلفة. وتمثّل “نتروجينا” شركة تركّز على التمايز في المُنْتَج. أمّا أسس التموضع – الأصناف، والاحتياجات، وكيفية الوصول إلى الزبائن – فهي تنقل فهم هذه الاستراتيجيات العمومية إلى مستوى أعلى من الخصوصية. فإيكيا و”ساوث ويست” هما شركتان تركّزان على التكلفة، مثلاً، لكن تركيز إيكيا يستند إلى احتياجات مجموعة من الزبائن، بينما يستند تركيز “ساوث ويست” إلى تقديم صنف معيّن من خدمة محدّدة.

وقد تحدّث إطار الاستراتيجيات العمومية عن الحاجة إلى الاختيار لتجنّب الوقوع المرء أن يقع فريسة لما وَصفتُهُ أنا وقتها بالتناقضات المتأصّلة للاستراتيجيات المختلفة. ويمكن للمُعَاوَضَات بين نشاطات المواضع المتضاربة أن تفسّر هذه التناقضات. لاحظوا مثلاً “كونتيننتال لايت” التي حاولت المنافسة بطريقتين وفشلت.

يصفُ معظم المدراء التموضعَ الاستراتيجي من خلال ربطه بزبائنهم: “تخدم شركة ساوث ويست الزبائن الذين يحبّذون الأسعار المنخفضة، والزبائن الذين يحبّذون الراحة الشخصية”؛ لكن جوهر الاستراتيجية يكمن في النشاطات – أي في اختيار إنجاز النشاطات بطريقة مختلفة أو إنجاز نشاطات تختلف عما ينجزه المنافسون. وإلا فإن الاستراتيجية لن تعدو كونها شعاراً تسويقياً لن يستطيع الصمود في وجه المنافسة.

تُصَمَّمُ شركة الطيران التي تقدّم خدمات كاملة بحيث تنقل الركّاب من أي نقطة (أ) إلى أي نقطة (ب). ولكي تتمكّن شركات الطيران تلك من الوصول إلى عدد كبير من الأماكن، وتقديم خدمة رحلات الربط، فإنها توظّف نظام المحور والفروع أي استخدام عدد من المطارات الكبرى كنقطة مركزية لتنسيق رحلات الطيران من وإلى مطارات أخرى. وبغية اجتذاب الركّاب الذين يرغبون بالمزيد من الراحة الشخصية، توفّر لهم هذه الشركات خدمات الدرجة الأولى أو درجة رجال الأعمال. ومن أجل استيعاب المسافرين الذين يتعيّن عليهم تغيير الطائرات، فإنها تنسّق الجداول الزمنية، وتستلم حقائب الركّاب وتحوّلها إلى الشركات الأخرى. وبما أن هناك ركّاباً سيسافرون لساعات طويلة، فإن شركات الطيران التي توفّر خدمات كاملة تقدّم وجبات طعام على متن رحلاتها.

لكنّ “ساوث ويست”، في المقابل، تصمّم جميع نشاطاتها لتقديم خدمة منخفضة التكلفة ومريحة على الخطوط المحدّدة التي تطير عليها. ومن خلال الاستخدام السريع للبوابات في المطارات والذي لا يتجاوز 15 دقيقة، بوسع “ساوث ويست” أن تبقي طائراتها في الجو لساعات أطول مقارنة مع منافسيها، وتؤمّن رحلات أكثر تواتراً وباستخدام عدد أقل من الطائرات. لا تقدّم “ساوث ويست” أي وجبات للمسافرين، ولا تحدّد للركّاب مقاعدهم، ولا تتعامل مع الشركات الأخرى في خدمة استلام وتسليم الحقائب، ولا توفّر خدمات الدرجة الأولى. وهي تستعمل نظاماً آلياً لإصدار التذاكر على البوابات يشجّع الزبائن على تخطّي وكلاء السفر، ممّا يسمح لـساوث ويست بتفادي دفع العمولات لهم. وما يعزّز كفاءة عمليات الصيانة هو استخدام الشركة أسطولاً موحّداً من طائرات بوينغ 737.

لقد تمكّنت “ساوث ويست” من أن تحدّد لنفسها موضعاً استراتيجياً فريداً وقيّماً اعتماداً على مجموعة من النشاطات فصّلتها تفصيلاً. وعلى الخطوط التي تخدّمها ساوث ويست، قد لا يمكن أبداً لشركة طيران تقدّم خدمات كاملة، أن تنافسها في الملاءمة أو انخفاض الأسعار.

ولننتقل إلى إيكيا (Ikea)، الشركة العالمية المتخصصة في بيع الأثاث والمفروشات المنزلية والتي تعمل انطلاقاً من السويد، وتتمتع، هي الأخرى، بتموضع استراتيجي واضح. تستهدف إيكيا متسوّقي المفروشات الشباب الذين يرغبون في اقتناء مفروشات عصرية بسعر منخفض. وما يحوّل هذا المفهوم التسويقي إلى تموضع استراتيجي، هو مجموعة النشاطات المفصّلة التي تجعله ناجحاً. فكما هو الحال مع ساوث ويست، اختارت إيكيا تنفيذ النشاطات بطريقة مختلفة عن منافسيها.

خذوا مثلاً متجر المفروشات التقليدي، حيث تتضمّن صالات العرض عادةً عيّنات من البضاعة فقط. فمساحة من المتجر قد تحوي 25 أريكة؛ ومنطقة أخرى تُعرض فيها 5 طاولات طعام. لكن هذه القطع لا تمثّل سوى جزء صغير من الخيارات المتاحة للزبائن. وعادة ما يكون هناك عشرات الكتيّبات التي تتضمّن عيّنات من الأقمشة أو الخشب، أو الطرازات البديلة تسمح للزبائن بالاختيار بين آلاف المنتجات. وغالباً ما يتجوّل مندوبو المبيعات مع الزبون في أرجاء المتجر، مجيبين عن أسئلته، ومقدّمين له يد العون في استكشاف هذه المتاهة من الخيارات. وبعد أن ينتقي الزبون ما يريده، ترسل الطلبية إلى جهة ثالثة لتصنيع المنتج المطلوب. وإذا كان الزبون محظوظاً، فإن الأثاث سيصل إلى منزله خلال فترة تتراوح ما بين ستة وثمانية أسابيع. نحن إذن هنا أمام سلسلةِ قيمةٍ تضمن تحقيق أقصى قدر من التخصيص في المنتجات بحسب حاجة الزبون، وكذلك أقصى قدر من الخدمة، لكن ذلك يأتي بتكلفة عالية.

أما إيكيا، في المقابل، فتوجه منتجاتها للزبائن الذين لا يمانعون في التخلّي عن الخدمة في مقابل السعر المنخفضة. فعوضاً عن توفير إيكيا لمندوب مبيعات يرافق الزبائن في أرجاء المتجر، تستعمل الشركة نموذجاً للخدمة الذاتية يستند إلى عرض البضائع بوضوح ضمن المتجر. وعوضاً عن اعتمادها على مصنّعين خارجيين فقط، فإنها تصمًم مفروشاتها ذات الأشكال القياسية والتكلفة المنخفضة والتي يمكن تركيبها فوراً لتناسب تموضعها الاستراتيجي كشركة. وفي المتاجر الكبيرة، تعرض إيكيا كل منتج من منتجاتها ضمن مساحة تشبه الغرف الحقيقية في المنزل بحيث لا يحتاج الزبائن إلى مهندس ديكور ليساعدهم في تخيّل كيفية تنسيق قطع الأثاث مع بعضها. وإلى جانب غرف العرض المفروشة، هناك مخزن يضمّ المنتجات الموضّبة في علب كرتونية موضوعة على رفوف ضخمة. وتتوقع إيكيا من الزبائن أن يختاروا ما يريدونه بأنفسهم وأن ينقلوا بضائعهم إلى حيث يريدون بأنفسهم أيضاً، حتى أنها ستبيعهم رفّاً من الشبك بوسعهم وضعه فوق سقف السيارة، ويمكنهم إعادته واسترجاع أموالهم في زيارتهم التالية.

رغم أن موضع إيكيا الاستراتيجي المرتبط بانخفاض التكلفة يأتي إلى حدّ كبير من كونها تجعل زبائنها “يقومون بالأمر بأنفسهم،” إلا أنها تقدّم لهم عدداً من الخدمات الإضافية التي لا يقدّمها لهم منافسوها؛ ومنها خدمة رعاية الأطفال ضمن المتجر، وساعات العمل الطويلة للمتاجر. وتتوافق هذه الخدمات تماماً مع احتياجات زبائنها من الشباب غير الأثرياء الذين لديهم غالباً أطفال (وليس لديهم مربية أطفال)، وهم مضطرون للعمل من أجل كسب العيش، أي أنهم بحاجة للتسوّق بعد أوقات الدوام الرسمي.

من أين تنشأ المواضع الاستراتيجية؟ تنشأ المواضع الاستراتيجية من ثلاثة مصادر مُميّزة، لكنها غير منفصلة أو متمايزة بل غالباً ما تتداخل وتتقاطع. أولاً، قد يكون التموضع مُستنداً إلى إنتاج مجموعة فرعية من المنتجات أو الخدمات في قطاع معيّن. وأنا أسمّي هذا النوع من التموضع باسم “التموضع المستند إلى الأصناف،” بما أنه يستند إلى الاختيار بين نماذج متنوّعة من المنتج أو الخدمة وليس إلى شرائح متنوّعة من الزبائن. ويُعتبرُ هذا النوع من التموضع المستند إلى الأصناف معقولاً من الناحية الاقتصادية عندما تكون الشركة هي أفضل من يستطيع إنتاج سلع أو خدمات معيّنة باستعمال مجموعات متميّزة من النشاطات.

تختصّ شركة “جيفي لوب” انترناشيونال (Jiffy Lube International)، على سبيل المثال، بصناعة زيوت السيارات ولا تقدّم أي خدمات أخرى في مجال إصلاح السيارات أو صيانتها. وبالمقارنة مع محلات إصلاح السيارات التي تقدّم خدمات أوسع، فإن سلسلة القيمة في “جيفي لوب” تنتج خدمة أسرع بتكلفة أقل، وهي توليفة جذّابة جدّاً للزبائن، تدفع العديد منهم إلى تقسيم مشترياتهم، بحيث يشترون عبوات الزيت الذي يريدون تغييره من “جيفي لوب”، الشركة المنافسة التي تصبّ كل تركيزها على هذه الزيوت، بينما يذهبون إلى غيرها من الشركات المنافسة للحصول على الخدمات الأخرى.

وهناك مثال آخر على التموضع المستند إلى تنوّع الأصناف، هو “ذا فانغارد غروب” (The Vanguard Group)، وهي شركة رائدة في الاستثمارات المشتركة، إذ توفّر طائفة من الأسهم المالية المعروفة، والسندات، وصناديق أسواق النقد ذات الأداء المعروف سلفاً وبتكلفة شديدة الانخفاض. وتتعمّد الشركة، في الطريقة الاستثمارية التي تنتهجها، التضحية بإمكانية تحقيق أداء استثنائي في أي عام محدّد لصالح أداء نسبي جيّد كل عام. والشركة مشهورة، مثلاً، بصناديقها الاستثمارية الستّة، وهي تتحاشى المراهنة على معدّلات الفائدة، وتتجنّب تماماً مجموعات الأسهم المتقلبة الأسعار لصغر حجم التداول فيها. وقد حافظ مدراء الصناديق على مستويات متدنية من التداولات، الأمر الذي أسهم في المحافظة على انخفاض التكاليف؛ إضافة إلى ذلك، فإن الشركة تثني الزبائن عن عمليات البيع والشراء السريعة، لأن ذلك يؤدّي إلى رفع التكاليف، ويمكن أن يُجبر أحد مدراء الصناديق على التداول من أجل الاستحصال على رأسمال جديد، وزيادة الأموال النقدية لإعادة المبلغ الأساسي للمستثمر. كما أن “فانغارد” تتّخذ منهجية متّسقة منخفضة التكلفة في إدارة التوزيع، وخدمة الزبائن، والتسويق. والعديد من المستثمرين يضمّون صندوقاً أو أكثر من صناديق “فانغارد” إلى محفظتهم، في حين يشترون صناديق هجومية أو صناديق متخصصة، من منافسيها.

إن الذين يلجؤون إلى “فانغارد” أو “جيفي لوب” يقومون بذلك استجابة لما تقدمانه من قيمة فائقة في ما يتعلق بنوع معيّن من الخدمات. إذ بوسع التموضع المستند إلى الأصناف أن يخدم طيفاً واسعاً من الزبائن، ولكنه لن يلبّي، في معظمه، إلا جزءاً من احتياجاتهم.

هناك النوع الثاني من التموضع الذي يقوم على أساس تلبية معظم، أو جميع، احتياجات مجموعة معيّنة من الزبائن؛ وأنا أسميه “التموضع المستند إلى الاحتياجات،” ويُعدّ قريباً من التفكير التقليدي الذي يستهدف شريحة من الزبائن. ينشأ هذا النوع عندما تكون هناك مجموعات من الزبائن لديها احتياجات مختلفة، ويكون بالإمكان تلبية هذه الاحتياجات على أكمل وجه بمجموعة من النشاطات مفصّلة على قياسها. فبعض مجموعات الزبائن أكثر حساسية تجاه الأسعار من غيرها، وهي تتطلّب مزاياً مختلفة في المنتج، وتحتاج إلى كميات متفاوتة من المعلومات، والدعم، والخدمات. ويُعتبر زبائن إيكيا مثالاً جيّداً على هذه المجموعة. فإيكيا تسعى إلى تلبية جميع احتياجات زبائنها المستهدفين بالنسبة للأثاث المنزلي، وليس جزءاً منها فقط.

وينشأ شكل مختلف من أشكال التموضع المستند إلى الاحتياجات عندما يكون لدى الزبون ذاته احتياجات مختلفة في مناسبات مختلفة أو لأنماط مختلفة من العمليات. فالشخص نفسه، قد تكون احتياجاته عندما يسافر في رحلة عمل مختلفة عن احتياجاته لدى سفره في رحلة ترفيهية أو عائلية. أمّا الشركات التي تشتري عبوات المشروبات المعدنية، مثلاً، فستكون احتياجاتها من مورّدها الأساسي مختلفة، على الأغلب، عن احتياجاتها من مورّدها الثانوي.

من البديهي أن ينظر معظم المدراء إلى شركاتهم من منظار تلبية احتياجات عملائهم. لكن عنصراً مهماً من التموضع المستند إلى الاحتياجات لا يبدو بديهياً على الإطلاق، بل غالباً ما يتمّ تجاهله. فالاختلافات في الاحتياجات لن تُترجم إلى مواضع ذات مغزى ما لم تختلف أيضاً مجموعات النشاطات الفضلى الرامية إلى تلبيتها. ولو لم يكن هذا هو الحال، لكان كل منافس قادراً على تلبية هذه الاحتياجات ذاتها، ولما كان هناك أي فرادة أو قيمة للتموضع.

ففي الخدمات المصرفية الخاصّة، على سبيل المثال، تستهدف شركة “بيسمر تراست كومباني” (Bessemer Trust Company) العائلات التي لا تقل ثروتها من الأصول القابلة للاستثمار عن خمسة ملايين دولار أميركي، والتي تريد الحفاظ على رأسمالها مع العمل، في الوقت ذاته، على مراكمة المزيد من الثروة. فبتعيين مسؤول حسابات متمرس لكل 14 عائلة، فإن شركة بيسيمر قد صاغت أنشطتها على شكل خدمات شخصية مفصّلة بحسب احتياجات كل شخص. والاجتماعات، مثلاً، تجري على الأرجح في مزرعة الزبون أو على يخته عوضاً عن المكتب. وتقدّم “بيسيمر” تشكيلة واسعة من الخدمات المخصّصة تشمل إدارة الاستثمارات، والإشراف على الممتلكات، ومراقبة الاستثمارات في حقول النفط والغاز، وتنظيم عمليات المحاسبة المتعلقة بسباقات الخيول والطائرات الخاصة. أمّا القروض، وهي الخدمة التي تؤمّنها معظم المصارف الخاصّة، فإن زبائن “بيسيمر” نادراً ما يحتاجون إليها، وهي تشكّل جزءاً صغيراً للغاية من أرصدة عملائها، ودخلهم. وعلى الرغم من أن التعويضات السخية التي يتقاضاها مسؤولو الحسابات في الشركة، والتكاليف المرتفعة للموظفين، تشكل نسبة مئوية عالية جداً من المصاريف التشغيلية، إلا أن التميّز الذي تحققه “بيسيمر” من خلال استهدافها لتلك العائلات يُنتج عائداً على رأس المال يُقدّر بأنه الأكبر مقارنة مع منافسيها ممّن يقدّمون خدمات مصرفية خاصة.

أمّا قسم إدارة الثروات الخاصّة في “سيتي بانك” (Citibank)، من جهة أخرى، فيقدّم خدماته للزبائن الذين لا تقلّ ثرواتهم عن 250.000 دولار أميركي. وهم خلافاً لزبائن “بيسيمر”، يريدون الحصول على قروض ميسّرة – من قروض الرهون العقارية الضخمة وحتى تمويل الصفقات. ومدراء الحسابات في “سيتي بانك” هم في المقام الأول مُقرِضون؛ وعندما يحتاج الزبائن إلى خدمات أخرى يحيلهم مدراء حساباتهم إلى مختصين آخرين في المصرف، يتعامل كل منهم مع منتجات مصرفية جاهزة. يُعتبر النظام في “سيتي بانك” أقل تجاوباً مع الاحتياجات الخاصّة لكل زبون، مقارنة مع النظام المطبّق في “بيسيمر”، وهناك مدير حسابات واحد لكل 125 عميلاً، أي أقل بكثير من النسبة الموجودة في “بيسيمر” والبالغة، كما أسلفنا، 1 إلى 14. والاجتماعات المكتبية لا تتمّ إلا مرّتين في السنة، وهي متاحة لكبار الزبائن فحسب. لقد فصّل كل من “بيسيمر” و”سيتي بانك” نشاطاتهما على مقاس احتياجات مجموعتين مختلفتين من زبائن الخدمات المصرفية الخاصّة. ولا يمكن لسلسلة القيمة ذاتها أن تلبّي، وبصورة مربحة، احتياجات كلتا المجموعتين.

يقوم النوع الثالث من التموضع على أساس تقسيم الزبائن إلى شرائح يمكن الوصول إليهم بطرق مختلفة. ورغم أن احتياجاتهم مشابهة لاحتياجات الزبائن الآخرين، إلا أن التصميم الأفضل للنشاطات التي تساعد في الوصول إليهم مختلف. وأنا اسمي هذا النوع من التموضع “التموضع المستند إلى طريقة الوصول إلى الزبائن.” فالوصول إلى الزبائن قد يرتبط بالمناطق الجغرافية المتواجدين فيها، أو مستواهم – أو بأي شيء يتطلّب مجموعة مختلفة من النشاطات للوصول إليهم بأفضل طريقة ممكنة.

إن تقسيم الزبائن إلى شرائح بحسب طريقة الوصول إليهم أقل شيوعاً من الأساسين الآخرين للتموضع، كما أنه يحظى بفهم أقلّ مقارنة بهما. فعلى سبيل المثال، تدير شركة “كارمايك سينيماز” (Carmike Cinemas) صالات للعروض السينمائية في المدن والبلدات التي يقل عدد سكّانها عن 200 ألف نسمة. فكيف تجني “كارمايك” المال في أسواق ليست صغيرة فحسب، بل لا تشجع على دفع أسعار مماثلة لأسعار التذاكر في المدن الكبيرة؟ إنها تجني المال عبر مجموعة من النشاطات التي تنطوي على هيكل تكاليف رشيق. فكارمايك يمكن أن تخدم زبائنها في المدن الصغيرة من خلال مجمعات صالات سينمائية موحّدة الشكل، ومنخفضة التكلفة، تتطلّب عدداً أقل من شاشات العرض وتقنيات عرض أقل تطوراً بالمقارنة مع ما هو سائد في صالات المدن الكبيرة. كما أن نظام المعلومات التابع للشركة وعملية الإدارة فيها ألغيا الحاجة إلى موظفين إداريين محليين عدا مدير صالة السينما. وتستفيد “كارمايك” من عدد من المزايا من خلال استخدام نظام مشتريات مركزي، وانخفاض معدّلات الإيجار والرواتب (بسبب المواقع التي تعمل فيها)، إضافة إلى النفقات العامة المتدنية للمكتب الرئيسي للشركة والبالغة 2% (بينما المعدّل الوسطي في هذا القطاع هو 5%).

كما أنّ العمل ضمن مجتمعات محلية صغيرة يسمح لكارمايك بممارسة نوع من التسويق ذي الطابع الشخصي جداً؛ فمدير صالة السينما يعرف الزبائن ويروّج لحضور الأفلام من خلال اتصالات مباشرة معهم. وبما أن “كارمايك” هي الجهة المهيمنة على صالات السينما في أسواقها إن لم تكن الوحيدة – ومنافسها الرئيسي غالباً هو فريق كرة القدم الأميركية في المدرسة الثانوية – فإنها بذلك قادرة على الحصول على ما تختاره من الأفلام والتفاوض على أسعار أفضل مع الموزّعين.

الزبائن في الريف مقابل الزبائن في المدينة، أحد الأمثلة على الكيفية التي تؤثر فيها طريقة الوصول إليهم في صوغ نشاطات مختلفة لتلبية احتياجاتهم. ومن الأمثلة الأخرى هو خدمة عدد قليل من الزبائن في مقابل خدمة عدد كبير، أو خدمة زبائن متجمّعين في منطقة معيّنة مقابل خدمة زبائن منتشرين في مناطق واسعة. وفي هذه الحالات، فإن الطريقة الفضلى لتحديد شكل نشاطات التسويق، والشؤون اللوجستية، وخدمات ما بعد البيع من أجل تلبية الاحتياجات المتشابهة لمجموعات متمايزة من الزبائن، ستكون مختلفة غالباً.

لا يتعلّق التموضع بمجرّد اقتطاع جزء خاص ومحدّد من السوق وخدمته فقط. فالموضع الذي ينشأ من أي من المصادر المذكورة أعلاه قد يكون واسعاً أو ضيقاً؛ فشركة منافسة مركّزة في أعمالها مثل إيكيا تستهدف الاحتياجات الخاصّة لمجموعة ثانوية من الزبائن وتصمّم نشاطاتها وفقاً لذلك. إن الشركات المركّزة على زبائن معينين تزدهر من خلال العمل إمّا مع فئة الزبائن الذين يحصلون من منافسيها الأكثر عمومية في استهدافهم على خدمات زائدة عن حاجاتهم (ممّا يعني دفعهم أسعاراً أعلى من المطلوب)، أو مع الزبائن الذين لا يحصلون من المنافسين على جميع الخدمات التي يحتاجون إليها (ممّا يعني دفعهم أسعاراً أقل من المطلوب). فالشركات المنافسة ذات الاستهداف الواسع – مثل “فانغارد” أو “ديلتا إيرلاينز” – تخدم مجموعة واسعة من الزبائن من خلال تأدية نشاطات مصمّمة لتلبية احتياجاتهم العامة. وهي تتجاهل الاحتياجات الفردية لفئة محدّدة من الزبائن، أو تلبيها جزئياً فقط.

ومهما يكن الأساس الذي يقوم عليه التموضع – سواء كان قائماً على تنوّع الأصناف، أو على الاحتياجات، أو على طريقة الوصول، أو على توليفة ما من الثلاثة معاً – فإنه يتطلّب مجموعة مفصّلة من النشاطات، لأن التموضع تابع دائماً لفروقات موجودة في جانب العرض؛ أي أنه تابع لفروقات في العمليات. غير أن التموضع ليس تابعاً دائماً لفروقات في جانب الطلب، أو جانب الزبائن. فالتموضع القائم على تنوّع الأصناف، والتموضع القائم على طريقة الوصول إلى الزبائن، تحديداً، ليسا تابعين لأي فروقات بين الزبائن. ولكن من الناحية العملية، غالباً ما تترافق الفروقات في الاحتياجات بفروقات في الأصناف أو في طرق الوصول. فعلى سبيل المثال، أذواق زبائن “كارمايك” في المدن الصغيرة – أي احتياجاتهم – تميل أكثر إلى الأفلام الكوميدية، وأفلام الغرب الأميركي، وأفلام التشويق، وأفلام الترفيه العائلي. ولا تعرض “كارمايك” أي أفلام لا يجوز للأولاد دون السابعة عشرة من العمر حضورها.

وبما أننا قد عرّفنا التموضع، يمكننا الآن البدء بالإجابة عن السؤال التالي: “ما هي الاستراتيجية؟” الاستراتيجية هي خلق موضع فريد وقيّم، يشمل مجموعة مختلفة من النشاطات. ولو كان هناك موضع واحد مثالي، لما كانت هناك حاجة إلى الاستراتيجية، ولكانت الشركات أمام واجب أساسي بسيط، وهو الفوز في سباق لاكتشاف هذا الموضع والوصول إليه قبل بقية المنافسين. لكنّ جوهر التموضع الاستراتيجي يكمن في اختيار نشاطات تختلف عن نشاطات المنافسين. ولو كانت المجموعة ذاتها من النشاطات هي الأنسب لإنتاج جميع الأصناف، وتلبية جميع الاحتياجات، والوصول إلى جميع الزبائن، لاستطاعت الشركات تبادل المراكز بسهولة فيما بينها، ولكانت الفعالية التنافسية هي من يقرّر الأداء.

اقرأ أيضاً: إلى ماذا تحتاج كي يكون لشركتك استراتيجية قائمة على المنصات والشبكات في وادي السيليكون؟

ثالثاً: الموضع الاستراتيجي المُستدام يتطلّب إجراء مُعَاوَضَات Tradeoffs (أي الحصول على أشياء مقابل التخلّي عن أشياء أخرى)

لا يُعتبر اختيار موضع فريد من نوعه كافياً لضمان الميزة المستدامة. فالموضع القيّم سوف يستدرج المنافسين إلى تقليده، وهم سيقلّدونه على الأرجح بواحدة من طريقتين:

أولاً، يمكن لمنافس أن يعيد التموضع ليتطابق مع منافس آخر ذي أداء متفوّق. فعلى سبيل المثال، عملت شركة “جيه سي بيني” (J.C. Penney) على إعادة التموضع من شركة هي نسخة طبق الأصل عن متاجر “سيرز” (Sears) إلى سلسة متاجر تجزئة أرفع مستوى تركّز على أحدث الأزياء. أمّا النمط الثاني والأكثر شيوعاً من التقليد فهو “وضع قدم هنا وقدم هناك” (straddling). فالشركة التي تستعمل هذا الأسلوب تسعى إلى تحقيق عين المكاسب التي يحققها الموضع الناجح لشركة منافسة لها، مع المحافظة في الوقت ذاته على موقعها الحالي. فهي تطعّم النشاطات التي تقوم بها أصلاً ببعض المزايا، أو الخدمات، أو التكنولوجيات الجديدة.

وبالنسبة لمن يقولون إن المنافسين قادرون على تقليد أي موضع في السوق، فإن قطاع شركات الطيران يُعتبر نموذجاً مثالياً لاختبار هذه الحالة. فمن الناحية الظاهرية تبدو أي شركة طيران منافسة قادرة على تقليد نشاطات شركة أخرى. فأي شركة طيران قادرة على شراء الطائرات ذاتها، واستئجار البوابات نفسها، وتقليد الخدمات الموجودة لدى الخطوط الجوية الأخرى مثل اللوائح، وخدمات إصدار التذاكر، واستلام حقائب السفر.

رأت شركة “كونتيننتال إيرلاينز” (Continental Airlines) للطيران ما الذي فعلته “ساوث ويست”، فقرّرت أن “نضع قدماً هنا وقدماً هناك”. ففي الوقت الذي أرادت فيه كونتيننتال المحافظة على موضعها بوصفها شركة طيران تقدّم خدمات كاملة، رغبت أيضاً في تقليد “ساوث ويست” في عدد من خطوط الرحلات المباشرة. وقد أطلقت “كونتيننتال” على هذه الخدمة اسم “كونتيننتال لايت” (Continental Lite). فأوقفت تقديم الوجبات وخدمات الدرجة الأولى، وزادت تواتر الرحلات، وخفّضت الأسعار، واختصرت زمن استخدام البوابات في المطار. وبما أن “كونتيننتال” ظلت شركة طيران تقدّم الخدمات الكاملة على الخطوط الأخرى، فإنها ظلت تعتمد على وكلاء السفر، وبقيت تستعمل أسطولها المختلط من الطائرات، وتقدّم خدمات استلام الحقائب، وتحديد مقاعد الركّاب.

لكن الموضع الاستراتيجي لن يكون مستداماً ما لم تكن هناك مُعَاوَضَات مع مواضع أخرى. وعادة ما تضطر الشركات إلى المُعَاوَضَة وتحقيق التمايز بين النشاطات عندما تكون غير منسجمة مع بعضها بعضاً. وبعبارة بسيطة فإن المُعَاوَضَة في هذا السياق تعني أن المزيد من شيء معيّن يقتضي بالضرورة كمية أقل من شيء آخر. فبوسع شركة طيران ما أن تختار تقديم وجبات طعام على متن رحلاتها – ممّا يحمّلها تكاليف إضافية، ويزيد زمن استخدام البوّابة – أو بوسعها اختيار عدم تقديم وجبات؛ لكنها لا تستطيع أن تفعل الأمرين معاً دون أن تعاني من قصور كبير في أداء خدماتها.

تخلق المُعَاوَضَات الحاجة إلى الاختيار، وهي تحمي الشركة من المقلّدين ومن “الذين يضعون قدماً هنا وقدماً هناك”. ولنأخذ مثالاً من شركة “نتروجينا” (Neutrogena) للصابون والتي يقوم تموضعها “المستند إلى الأصناف” على صابون “ناعم على الجلد”، لا يترك رغوة، ويتمتّع بدرجة قلوية متوازنة. إن الشركة التي تقوم على تقديم الكثير من التفاصيل المنسوبة إلى أطباء الجلد، تبدو في استراتيجيتها التسويقية أقرب إلى شركة أدوية منها إلى شركة صابون. فهي تنشر إعلاناتها في المجلاّت الطبية، وتبعث برسائل مباشرة إلى الأطباء، وتحضر المؤتمرات الطبية، وتجري أبحاثها في مختبرها الخاص بالعناية بالجلد. ولكي تعزّز نتروجينا موضعها، فقد ركّزت جهودها في مجال التوزيع في البداية على الصيدليات، وتجنّبت الحملات الترويجية التي تقوم على تخفيض الأسعار في متاجر السوبرماركت. كما تستخدم نتروجينا عملية تصنيع بطيئة وأغلى تكلفة لإنتاج صابونها الهش.

باختيار نتروجينا لهذا الموضع، فقد قالت لا لمزيلات الروائح ومُطرَّيات الجلد التي يرغب العديد من الزبائن بوجودها في الصابون الذي يستعملونه. كما تخلّت عن إمكانية بيع كميات كبيرة من منتجاتها عبر متاجر السوبرماركت والدخول في عروض تخفيض الأسعار. وقد ضحّت بكفاءة التصنيع لتحقيق صفات الصابون المطلوبة. وفي تموضعها الاستراتيجي الأصلي، قامت نتروجينا بمجموعة كبيرة من مُعَاوَضَات كهذه، وهي مُعَاوَضَات حمت الشركة من المقلّدين.

تنشأ الحاجة إلى المُعَاوَضَة من ثلاثة أسباب. الأول هو التضارب في صورة الشركة أو سمعتها. فالشركة المعروفة بتقديم نوع من القيمة قد تفتقر إلى المصداقية أو قد تربك الزبائن – أو حتى قد تقوّض سمعتها – إن هي قدّمت نوعاً آخر من القيمة، أو حاولت تقديم أمرين متضاربين في الوقت ذاته. فعلى سبيل المثال، ستجد شركة آيفوري (Ivory) للصابون التي تمتلك موضعاً بوصفها شركة تصنع صابوناً عادياً رخيصاً للاستعمالات اليومية، صعوبةً في تغيير صورتها لتصبح مشابهة لنتروجينا التي تملك سمعة حسنة في صناعة الصابون “الطبي.” كما أن الجهود الهادفة إلى خلق صورة جديدة تكلّف عادة عشرات، أو حتى مئات، ملايين الدولارات في قطاع رئيسي – وهذا يشكّل عائقاً كبيراً أمام التقليد.

ثانياً، وهو أهم، إن الحاجة إلى المُعَاوَضَات تنشأ من النشاطات ذاتها. فالمواضع المختلفة (مع نشاطاتها المفصّلة على قياسها) تتطلّب تصاميم مختلفة للمنتجات، ومعدّات مختلفة، وسلوكاً مختلفاً بين الموظفين، ومهارات مختلفة، وأساليب مختلفة في الإدارة. والعديد من المُعَاوَضَات التي تتمّ تأتي انعكاساً لغياب المرونة في الآلات، أو الموظفين، أو الأنظمة. فكلّما عملت إيكيا على تصميم نشاطاتها بطرق تهدف إلى خفض التكاليف من خلال جعل زبائنها يقومون بتجميع قطع الأثاث وإيصالها بأنفسهم، قلّت قدرتها على إرضاء الزبائن الذين يحتاجون إلى مستويات أعلى من الخدمات.

ولكن يمكن أن تكون المُعَاوَضَات أساسية أكثر من ذلك. فالقيمة، بشكل عام، يمكن أن تُدمّر إذا كان تصميم نشاط معيّن أكبر أو أصغر من المطلوب لتأدية الغرض. فلو أن مندوب مبيعات ما، مثلاً، كان قادراً على تقديم مستوى عالٍ من المساعدة لأحد الزبائن، وغير قادرعلى تقديم أية مساعدة لزبون آخر، فإن موهبة مندوب المبيعات (وجزءاً من تكلفته) ستُهدر على الزبون الثاني. وعلاوة على ما سبق، يمكن للإنتاجية أن تتحسّن عندما يكون التفاوت في النشاطات محدوداً. فإذا ما قام مندوب المبيعات بتقديم مستوى رفيع من المساعدة طول الوقت، فباستطاعته، مع كامل فعاليات المبيعات، تحقيق كفاءة التعلّم والارتقاء.

أخيراً، قد تنشأ الحاجة إلى المُعَاوَضَات من القيود المفروضة على التنسيق والضبط الداخليين. فعندما تختار الإدارة العليا، بوضوح، المنافسة بطريقة معيّنة لا بأخرى، فإنها تجعل أولويات المؤسسة محددة وواضحة. وفي المقابل، فإن الشركات التي تحاول أن تلبّي جميع الاحتياجات لجميع الزبائن قد تكون معرّضة لخطر حصول تشويش بين صفوف موظفيها، لا سيما عندما يضطرون إلى اتخاذ القرارات التشغيلية اليومية دون أن يكون لديهم إطار واضح.

إن المُعَاوَضَات المرتبطة بالتموضع أمر شائع خلال المنافسة، وأساسي للاستراتيجية. فهي تخلق الحاجة إلى الاختيار وتحدّد، بشكل هادف، ما تقدّمه الشركة. وهي تحدّ أيضاً من قدرة المنافسين الذين يرغبون “بوضع قدم هنا وقدم هناك” أو بإعادة التموضع، لأن المنافسين اللذين يتّبعون هذه المنهجيات يقوّضون استراتيجياتهم الذاتية ويقللون من قيمة نشاطاتهم القائمة.

والمُعَاوَضَات هي التي قادت مشروع “كونتيننتال لايت” في نهاية الأمر إلى الفشل؛ فخسرت شركة الطيران مئات ملايين الدولارات، وفقد الرئيس التنفيذي منصبه. لقد اضطرت طائراتها للتأخر في مغادرة مطارات المدن الرئيسية المكتظة، أو للانتظار عند البوابات حتى الانتهاء من نقل الحقائب. وأدّى تأخر الرحلات وإلغاؤها إلى آلاف الشكاوى يومياً. كما لم تكن “كونتيننتال لايت” قادرة على المنافسة في السعر في الوقت الذي تدفع فيه نسبة العمولة المتعارف عليها لوكلاء السفر، لكنها لم تكن قادرة أيضاً على التخلّي عن هؤلاء الوكلاء في رحلاتها الكاملة الخدمات. واضطرت الشركة إلى التنازل بخفض العمولات على كافة رحلات كونتيننتال. وبالمثل، لم تكن قادرة على تحمّل كلفة تقديم ميزات “السفر المتكرر” نفسها للركّاب الذين كانوا يدفعون أسعاراً أقل بكثير لتذاكر “كونتيننتال لايت”. واضطرت مجدّداً إلى التنازل من خلال تخفيض مكافآتها لجميع المستحقين لميزات برنامج “السفر المتكرر”. وماذا كانت النتيجة؟ غضب وكلاء السفر وزبائن الخدمات الكاملة.

حاولت “كونتيننتال” أن تنافس بطريقتين في الوقت ذاته. فمن خلال محاولة الشركة تقديم خدمات منخفضة التكلفة على بعض الخطوط، وخدمات كاملة على خطوط أخرى، دفعت غرامة باهظة جرّاء سياسة “قدم هنا وقدم هناك” هذه. لو لم تكن ثمة حاجة إلى مُعَاوَضَات بين الموضعين، لكانت “كونتيننتال” قد نجحت. لكن غياب المُعَاوَضَات هو نصف حقيقة خَطِر جدّاً يتعيّن على المدراء استبعاده من أذهانهم. فالجودة ليست دائماً مجانية. والراحة الشخصية التي تقدّمها “ساوث ويست”، وهذا أحد أشكال الجودة الرفيعة، تبدو متوافقة مع التكاليف المنخفضة لأن التواتر العالي لرحلاتها هو أمر تيسّره مجموعة من الممارسات منخفضة التكلفة مثل تقليص وقت استخدام البوابات في المطار والإصدار الآلي للتذاكر. أما الأبعاد الأخرى لجودة شركة الطيران، مثل تخصيص المقاعد للركّاب، أو تقديم الوجبات على متن الرحلات، أو توفير خدمة نقل الحقائب، فهي أمور لها تكلفتها.

وبشكل عام، تحصل المُعَاوَضَات الزائفة بين التكلفة والجودة بصورة أساسية عندما يكون هناك جهد زائد عن الحاجة أو مهدور، أو سوء في الضبط أو الدقّة، أو ضعف في التنسيق. إن التزامن في إجراء تحسين على التكلفة والتميز لا يكون ممكناً إلا عندما تبدأ الشركة من نقطة بعيدة خلف الحدود الإنتاجية القصوى، أو عندما يحصل تحوّل في هذه الحدود نحو الخارج. فعند هذه الحدود القصوى، حيث تكون الشركات قد حققت أفضل ممارسة، تكون المُعَاوَضَة بين التكلفة والتمايز حقيقية جدّاً بالفعل.

بعد عقد من الزمن تمتّعت خلاله شركتا هوندا (Honda Motor Company) وتويوتا (Toyota Motor Corporation) بالميزات الإنتاجية، اصطدمتا بالحدود القصوى للإنتاجية. ففي العام 1995، وبعد أن واجهت هوندا إعراضاً متزايداً من الزبائن عن شراء سياراتها لارتفاع أسعارها، وجدت الشركة أن الطريقة الوحيدة لصنع سيارة أرخص ثمناً تتمثّل في تقليل عدد المزايا الموجودة فيها. ففي الولايات المتّحدة الأميركية قامت باستبدال أقراص الفرامل الخلفية في سيارتها طراز سيفيك (Civic) بنوع آخر أقل تكلفة، واستعملت نوعاً أرخص من القماش للمقاعد الخلفية، على أمل ألا يلاحظ الزبائن ذلك. أمّا تويوتا فقد حاولت بيع نسخة من كورولا، سيارتها الأكثر مبيعاً في اليابان، بمخفف صدمات غير مدهون، وقماش مقاعد أقل جودة. في حالة تويوتا، ثارت ثائرة الزبائن، فسارعت الشركة إلى وقف إنتاج هذا الطراز الجديد.

خلال العقد الماضي، ومع نجاح المدراء في إدخال تحسينات هائلة على الفعالية التشغيلية، أقنعوا أنفسهم أن التخلّص من المُعَاوَضَة فكرة جيدة. ولكن إذا لم تكن هناك مُعَاوَضَة، فإن الشركات لن تحقّق ميزة مستدامة أبداً. وستضطر إلى الركض أسرع فأسرع لتكتشف أنها تراوح مكانها.

مع عودتنا إلى السؤال المطروح “ما هي الاستراتيجية؟” نجد أن المُعَاوَضَات تضيف بعداً جديداً إلى السؤال. فالاستراتيجية تعني إجراء مُعَاوَضَات أثناء التنافس مع الآخرين. وجوهر الاستراتيجية يكمن في اختيار ما الذي لا ينبغي فعله، ومن دون التسويات لن يكون ثمة حاجة للاختيار ولا حاجة بالتالي للاستراتيجية، وأي فكرة جديدة يمكن أن تقلّد، وسيتمّ تقليدها سريعاً. ومرّة أخرى أقول إن الأداء سيعتمد مجدّداً وبالكامل على الفعالية التشغيلية.

رابعاً: التلاؤم يُعتبر محرّكاً للميزة التنافسية والاستدامة على حدّ سواء

لا تقرّر خيارات التموضع ماهية النشاطات التي ستؤدّيها الشركة وكيفية تصميم النشاطات الإفرادية فحسب، وإنما تقرّر أيضاً طريقة الاتصال بين هذه النشاطات. وفي الوقت الذي تعني فيه الفعالية التشغيلية تحقيق التميّز في النشاطات أو الوظائف الإفرادية، فإن الاستراتيجية تعني الجمع بين النشاطات.

تقليص وقت استخدام بوابات المطار في حالة شركة “ساوث ويست” للطيران، والذي يسمح بزيادة تواتر الرحلات وباستعمال أكبر للطائرات، هو أمر أساسي في تموضع الشركة بوصفها تقدّم راحة شخصية عالية وتكلفة منخفضة. ولكن كيف تحقّق “ساوث ويست” ذلك؟ يكمن جزء من الإجابة عن السؤال في الرواتب الجيدة التي تدفع لموظفي البوابات وطاقم المضيفين الأرضيين، والذين تُسهمُ مرونةُ القواعد المفروضة من نقابات العمّال في تعزيز إنتاجيتهم في تقصير وقت استخدام البوابات. لكن الجزء الأكبر من الإجابة يكمن في الطريقة التي تنفّذ بها “ساوث ويست” نشاطاتها الأخرى. فمع عدم تقديم وجبات طعام في الرحلات، وعدم تخصيص مقاعد الركاب، وعدم وجود خدمة استلام وتسليم الحقائب من الشركات الأخرى، فإن “ساوث ويست” تتفادى أداء النشاطات التي تُبطئ عمل شركات الطيران الأخرى. وهي تختار المطارات وخطوط الطيران التي تسمح لها بتفادي الاكتظاظ الذي يقود إلى التأخير. كما أن القيود الصارمة التي فرضتها “ساوث ويست” على نوع خطوط الرحلات وطولها أتاحت استعمال طائرات موحدة: فجميع طائرات “ساوث ويست” من طراز بوينغ 737.

فما هي الكفاءة الأساسية لدى “ساوث ويست”؟ وما هي عوامل نجاحها الرئيسية؟ الإجابة الصحيحة هي أن جميع الأشياء مهمّة. فاستراتيجية “ساوث ويست” تشمل نظاماً كاملاً ومتكاملاً وشاملاً من النشاطات، وليس فقط مجموعة من الأجزاء. وميزتها التنافسية تأتي من الطريقة التي تتلاءم بها النشاطات مع بعضها بعضاً وتعزّز بعضها بعضاً.

فهذا التلاؤم يُبعد المقلّدين من خلال خلق سلسلة قوّتها من قوّة أقوى حلقاتها. وكما هو الحال في معظم الشركات التي تمتلك استراتيجيات جيدة، فإن النشاطات في “ساوث ويست” يكمّل أحدها الآخر بطريقة تخلق قيمة اقتصادية حقيقية. فتكلفة أحد النشاطات، على سبيل المثال، تُخفّضُ بسبب الطريقة التي تُنجز بها النشاطات الأخرى. وبصورة مشابهة، يمكن تعزيز القيمة التي يقدّمها أحد النشاطات إلى الزبائن بدعم من النشاطات الأخرى للشركة. فهذه هي الطريقة التي يساعد بها التلاؤمُ الاستراتيجيُ في خلق الميزة التنافسية والربحية المتفوّقة.

أنواع التلاؤم. تُعتبر أهمية التلاؤم بين السياسات الوظيفية واحدةً من أقدم الأفكار في الاستراتيجية. لكنها اختفت تدريجياً من جدول أعمال المدراء. فعوضاً عن أن يرى هؤلاء المدراء الشركة بوصفها كلاً متكاملاً، انتقلوا إلى التركيز على الكفاءات “الأساسية”، والموارد “الهامة”، وعوامل النجاح “الرئيسية”. بينما يمثّل “التلاؤم”، في الحقيقة، مكوّناً مركزياً من مكوّنات الميزة التنافسية أكبر بكثير ممّا يدركه معظم المدراء.

فالتلاؤم ضروري وهام لأن النشاطات المنفصلة والمتمايزة عن بعضها غالباً ما تؤثّر على بعضها البعض. فعلى سبيل المثال، يمكن لفريق مبيعات متطوّر جدّاً أن يمنح ميزة أكبر عندما يضمُ مُنْتَجُ الشركة تقنية إضافية، في وقت تشدّد فيه المنهجية التسويقية للمنتج على مساعدة الزبون ودعمه. وخط الإنتاج الذي يشمل مستويات عالية من التنوّع في النماذج المنتجة يكون أكثر قيمة إذا ما أضيف إليه نظام للتخزين ومعالجة الطلبيات يقلل من الحاجة إلى تخزين المنتجات المصنّعة، وعمليات مبيعات مُهيأة لتشرح كيف يمكن تعديل المنتج بحسب احتياجات الزبون وتشجّع على هذا التعديل، وحملة إعلانية تشدّد على المكاسب المتحققة من التنوّع في نماذج المنتج التي تلبي الاحتياجات الخاصة للزبون. هذا النوع من حالات التكامل هو أمر يتخلل الاستراتيجية كلّها. ورغم أن بعض حالات التلاؤم بين النشاطات تُعتبر عامّة وتنطبق على العديد من الشركات، إلا أن أكثر أنواع التلاؤم قيمة هو التلاؤم المتناسب مع استراتيجية الشركة تحديداً لأنه يعزّز من فرادة موضعها ويُضخّم المُعَاوَضَات2.

هناك ثلاثة أنماط من التلاؤم، وإن كانت غير متمايزة تماماً. التلاؤم من الدرجة الأولى هو “الاتساق البسيط” (simple consistency) بين كل نشاط (وظيفة) واستراتيجية الشركة الكليّة. في حالة “فانغارد”، على سبيل المثال، نجد أن الشركة تصمّم كافة النشاطات بحيث تكون متوافقة مع استراتيجية التكلفة المنخفضة؛ فهي تقلّل من التقلّبات في المحافظ المالية إلى الحد الأدنى، ولا تحتاج إلى مدراء أموال برواتب عالية. كما تقوم بتوزيع أموالها مباشرة، متحاشية دفع العمولات إلى الوسطاء، وتحدّ كذلك من الإعلانات معتمدة عوضاً عن ذلك على العلاقات العامّة وتزكية الناس للشركة شفهياً. وتربط “فانغارد” علاوات الموظفين بالتوفير الذي يحققونه في التكاليف.

يعمل الاتساق على ضمان تراكم الميزات التنافسية للنشاطات وتضافرها وعدم إلغائها لبعضها بعضاً. وهو يسهّل إبلاغ الاستراتيجية إلى الزبائن، والموظفين، والمساهمين، ويحسّن التنفيذ من خلال توحيد العقلية السائدة في المؤسسة.

يحصل التلاؤم من الدرجة الثانية عندما تعزّز النشطات بعضها بعضاً فشركة “نتروجينا”، على سبيل المثال، تسوّق صابونها لدى الفنادق الراقية الحريصة على أن تقدّم لزبائنها صابوناً ينصح به أطباء الجلدية. والفنادق تمنح “نتروجينا” ميزة استعمال العبوات المعتادة للشركة، في حين أنها تشترط على شركات الصابون الأخرى وضع اسم الفندق على ألواح الصابون. وبعد أن يجرّب الزبائن صابونة “نتروجينا” في أحد الفنادق الفخمة، فإنهم على الأرجح سيشترونها من الصيدلية أو يسألون طبيبهم عنها. وبالتالي، فإن نشاطات “نتروجينا” التسويقية في الحقل الطبي وفي قطاع الفنادق تعزّز بعضها البعض، وهذا الأمر يخفّض التكاليف الإجمالية للتسويق.

في مثال آخر، تبيع شركة “بيك” (Bic Corporation) صنفاً محدوداً من أقلام الحبر الجاف القياسية ذات السعر المنخفض لجميع أسواق الزبائن تقريباً (أسواق التجزئة، والأسواق التجارية، وأسواق العروض الترويجية، وأسواق الهدايا) عبر جميع الأقنية المتاحة تقريباً. وكما هو الحال مع أي تموضع يستند إلى الأصناف، ويخدم مجموعة واسعة من الزبائن، فإن “بيك” تشدّد على حاجة مشتركة (سعر منخفض لقلم مقبول) وتنتهج مقاربات تسويقية تصل إلى جمهور واسع (قوّة مبيعات كبيرة وحملات إعلانية تلفزيونية مكثّفة). وتجني “بيك” ثمار الاتساق في جميع النشاطات تقريباً، بما في ذلك تصميم المنتج الذي يشدّد على سهولة التصنيع، ومعامل مصمّمة لكي تدعم التكلفة المنخفضة، وعمليات مشتريات قوية تهدف إلى التقليل من تكاليف المواد، وإنتاج الأجزاء داخلياً ضمن الشركة كلما اشترط التوفير الاقتصادي ذلك.

ومع ذلك، فإن بيك تتجاوز مجرّد الاتساق في نشاطاتها لأن هذه النشاطات تعزّز بعضها بعضاً. فعلى سبيل المثال، تستعمل الشركة أسلوب عرض أقلامها عند نقاط البيع (أي الأماكن التي يسدّد الناس فيها ثمن مشترياتهم في السوبرماركت مثلاً) وكذلك التغيير المتكرّر في علب التغليف لتحفيز الناس على الشراء الغريزي. ولكي تتعامل الشركة مع المهام المرتبطة بنقاط البيع، فهي بحاجة إلى فريق مبيعات كبير. ويعتبر فريقها هذا الأكبر في هذه الصناعة، وهي تتعامل مع النشاطات المتعلقة بنقاط البيع أفضل ممّا يتعامل منافسوها مع الأمر. لا بل أكثر من ذلك. هذه التوليفة من النشاطات المتعلّقة بنقاط البيع، والحملات الإعلانية التلفزيونية المكثّفة، والتغييرات المدخلة على علب التغليف تقود إلى قدر من الشراء الغريزي يفوق بكثير ما يمكن لأي من هذه النشاطات أن يحقّقه بمفرده وبمعزل عن النشاطات الأخرى.

يتجاوز التلاؤم من الدرجة الثالثة التعزيز المتبادل بين النشاطات ليصل إلى ما اسميه الوصول بالجهود إلى الدرجة المثلى (optimization of effort). تعتبر “غاب” (Gap)، وهي شركة تجزئة لبيع الملابس غير الرسمية، أنّ التوفّر الدائم للمنتجات في متاجرها هو أحد العناصر الأساسية في استراتيجيتها. وبوسع الشركة الاحتفاظ بالمنتجات إما عن طريق تخزين كميات إضافية من الملابس في المتاجر، أو من خلال تعويض ما تبيعه بطلب بدائل من المستودعات. وقد عملت “غاب” على الوصول بجهودها إلى الدرجة المثلى في هذه النشاطات من خلال تعويض ما يباع من تشكيلتها الأساسية من الملابس بشكل يومي تقريباً باستقدام هذه الملابس من ثلاثة مستودعات، ممّا يقلل من الحاجة إلى الاحتفاظ بمخزونات كبيرة من الملابس داخل المتجر. ويتمّ التركيز على إعادة تعويض المخزونات لأن استراتيجية “غاب” فيما يخص بضائعها تقوم على الالتزام ببنود أساسية وبألوان قليلة نسبياً. وفي الوقت الذي تحقق فيه شركات مشابهة للتجزئة دوراناً في المخزون يصل إلى ثلاث أو أربع مرّات في السنة، فإن دوران المخزون في “غاب” يصل إلى سبع مرّات ونصف المرّة سنوياً. كما أن التعويض السريع للمخزونات يقلّل من تكلفة تنفيذ الدورة القصيرة للموديل في “غاب”، التي يبلغ طولها ما بين ستة إلى ثمانية أسابيع.

يُعتبر التنسيق وتبادل المعلومات بين مختلف النشاطات بغية التقليل من التكرار والهدر في الجهود الشكلين الأكثر أساسية من أشكال الوصول بالجهود إلى الدرجة المثلى. لكن هناك مستويات أعلى أيضاً. فخيارات تصميم المُنتج، مثلاً، يمكن أن تقضي على الحاجة إلى خدمة ما بعد البيع، أو يمكن أن تسمح للزبائن أنفسهم أن يقوموا بنشاطات الخدمة. وبصورة مشابهة، فإن التنسيق مع المورّدين أو أقنية التوزيع يمكن أن يلغي الحاجة إلى بعض النشاطات الداخلية، مثل تدريب المستخدمين النهائيين.

في جميع هذه الأنماط الثلاثة من التلاؤم يعتبر الكل أهم من أي جزء فردي. فالميزة التنافسية تنمو وتنبثق من نشاطات النظام بأكمله. كما أن التلاؤم بين النشاطات يقلل التكلفة إلى حدٍّ كبير أو يزيد من التمايز. وإذا مضينا أبعد من ذلك يمكن القول أن القيمة التنافسية للنشاطات الفردية – أو ما يرتبط بها من مهارات، أو كفاءات، أو موارد – لا يمكن أن تُفصل عن النظام أو الاستراتيجية. لذلك قد يكون من المضلل تفسير النجاح في الشركات التنافسية من خلال تحديد نقاط قوّة، أو كفاءات أساسية، أو موارد أساسية إفرادية. فقائمة نقاط القوّة تغطّي العديد من الوظائف، وكل نقطة قوّة تتداخل مع النقاط الأخرى. والتفكير في المواضيع التي تشمل الكثير من النشاطات، مثل انخفاض التكلفة، أو مفهوم معيّن لخدمة الزبائن، أو تصوّر محدّد للقيمة المقدّمة أكثر فائدة. فهذه المواضيع تتجسّد في شبكة النشاطات المرتبطة ببعضها البعض ارتباطاً محكماً.

التلاؤم والاستدامة. يُعتبر التلاؤم الاستراتيجي بين النشاطات المتعدّدة أمراً جوهرياً، ليس للميزة التنافسية فحسب، وإنما أيضاً من أجل استدامة هذه الميزة. إن محاولة تقليد أي منافس لنسقٍ من النشاطات المتشابكة والمحكمة الحبك، أصعب بكثير من مجرّد محاكاة منهج معيّن يتّبعه فريق المبيعات، أو استنساخ تكنولوجيا مستخدمة في عملية ما، أو تقليد مجموعة من مزايا أحد المنتجات. فالمواضع المبنيّة على أنظمة النشاطات المتكاملة أكثر استدامة بكثير من تلك المبنية على نشاطات إفرادية.

آراء بديلة بالاستراتيجية

نموذج الاستراتيجية السائد خلال العقد الماضي

  • موضع تنافسي مثالي واحد في القطاع.
  • مقايسة جميع النشاطات مع الآخرين وتحقيق الممارسة الفضلى.
  • اللجوء كثيراً إلى تعهيد المهام إلى جهات خارجية والدخول في شراكات من أجل تحقيق الكفاءات.
  • الميزات تستند إلى بضعة عوامل نجاح رئيسية، ومصادر أساسية، وكفاءات أساسية.
  • المرونة والاستجابات السريعة لجميع التغيّرات التنافسية والتغيّرات في السوق.

الميزة التنافسية المستدامة

  • موضع تنافسي فريد للشركة.
  • نشاطات مصمّمة بحسب مقتضيات الاستراتيجية.
  • مُعَاوَضَات وخيارات واضحة في مقابل المنافسين.
  • الميزة التنافسية تنشأ من التلاؤم بين مختلف النشاطات.
  • الاستدامة تأتي من نظام النشاطات بأكمله، وليس من أجزائه.
  • الفعالية التشغيلية هي من المسلّمات.

ولنأخذ التمرين التالي على سبيل المثال: غالباً ما يكون احتمال قدرة المنافسين على تقليد أي نشاط بدقّة أقل من واحد؛ والاحتمالات بالتالي تصبح مركّبة لتجعل تقليد النظام بأكمله مستبعداً جداً (0.9× 0.9 = 0.81؛ و 0.9× 0.9 × 0.9× 0.9 = 0.66، وهكذا دواليك). والشركات القائمة التي تحاول أن تعيد تموضعها أو أن “تضع قدماً هنا وقدماً هناك” ستُجبر على إعادة تصميم العديد من النشاطات. وحتى الشركات الداخلة إلى السوق حديثاً، ورغم أنها لا تواجه المُعَاوَضَات التي يواجهها المنافسون الراسخون، إلا أنها ستظل تصادف عوائق هائلة في وجه التقليد.

وكلّما كان تموضع الشركة يعتمد اعتماداً أكبر على أنظمة نشاطات فيها تلاؤم من الدرجة الثانية والثالثة، كلّما كانت استدامة هذا التموضع أكبر. فهذه الأنظمة، بحكم طبيعتها، لا يمكن لأحد من خارج الشركة فك طلاسمها، لذلك يصعب تقليدها. وحتى لو استطاع المنافسون تحديد الترابطات الداخلية ذات الصلة، فسيواجهون صعوبة في تقليدها. وتحقيق التلاؤم ليس أمراً سهلاً لأنه يتطلّب تكاملاً بين القرارات والإجراءات عبر العديد من الوحدات الفرعية المستقلة.

ولن يستفيد المنافس الذي يحاول تقليد نظام نشاطات باستنساخ بعض النشاطات منه وترك الأخرى. فالأداء لن يتحسّن؛ بل من الممكن أن يتراجع. ولنتذكّر محاولة “كونتيننتال لايت” الكارثية لتقليد “ساوث ويست”.

أخيراً، يخلق التلاؤم بين نشاطات الشركة ضغوطاً وحوافز لتحسين الفعالية التشغيلية، ممّا يجعل التقليد أكثر صعوبة. فالتلاؤم يعني أن الأداء السيئ في نشاط معيّن سيُضعف الأداء في النشاطات الأخرى، مما يجعل مواطن الضعف مكشوفة وأكثر عرضةً للحصول على الاهتمام. والعكس صحيح أيضاً. فالتحسين في نشاط معيّن سيؤتي ثماره في النشاطات الأخرى. ونادراً ما تكون الشركات المحقّقة مستوى عالياً من التلاؤم بين نشاطاتها، أهدافاً مغرية. فتفوّقها في الاستراتيجية والتنفيذ يضاعف ميزاتها، ويزيد من ارتفاع العوائق في طريق مقلّديها.

إعادة ربط الأمور مع الاستراتيجية

معظم الشركات مدينة في نجاحها المبدئي إلى موضع استراتيجي فريد ينطوي على إجراء مُعَاوَضَات واضحة. وقد كانت النشاطات يوماً متوافقة مع هذه الموضع. لكن مرور الوقت والضغوطات التي فرضها النمو، أوصلتنا إلى شركات لم يكن المرء في البداية يتخيّلها. فمن خلال سلسلة متتابعة من التغيّرات التي بدا كل واحد منها معقولاً وقته، قدّمت الشركات تنازلات متتالية حتى وصلت إلى درجة من التجانس مع المنافسين.

والقضية هنا لا تتعلّق بالشركات التي لم يعد موضعها التاريخي قابلاً للبقاء؛ فالتحدّي بالنسبة لها يكمن في البدء من جديد، تماماً كما يفعل أي قادم جديد إلى القطاع. بل إننا بصدد ظاهرة أكثر شيوعاً: وهي تحقيق الشركة الراسخة لعوائد ضعيفة وافتقارها إلى استراتيجية واضحة. فمن خلال لجوء الشركات الحالية إلى الإضافات المتزايدة في أصناف المنتجات، والجهود المتزايدة لخدمة مجموعات جديدة من الزبائن، وتقليد نشاطات المنافسين، فإنها بذلك تخسر موضعها التنافسي الواضح. وهي تكون عادة قد قلّدت الكثير من عروض منافسيها وممارساتهم وتحاول أن تبيع معظم مجموعات الزبائن.

هناك عدد من المنهجيات التي يمكن أن تساعد الشركة في إعادة ربط الأمور مع الاستراتيجية. تتمثّل المنهجية الأولى في الدراسة المتأنية لما تقوم به الشركة حالياً. ففي صميم معظم الشركات ذات الحضور الراسخ هناك جوهر أو أساس فريد من نوعه، يجري تحديده من خلال الإجابة عن أسئلة مثل الأسئلة التالية:

أي من أصناف منتجنا أو خدمتنا هي الأكثر تميّزاً؟

أي من أصناف منتجنا أو خدمتنا هي الأكثر ربحية؟

أي من زبائننا هو الأكثر رضا؟

أي الزبائن، أو الأقنية، أو فرص الشراء هم الأكثر ربحية؟

أي من النشاطات الموجودة في سلسلة القيمة لدينا هي الأكثر اختلافاً وفعالية؟

وحول هذا الجوهر الفريد هناك قشور تُضاف تدريجياً مع مرور الوقت. وكما هو الحال مع حيوان “البرنقيل” الصدفي الذي يلتصق على الأشياء في البحر، فإن هذه القشور يجب أن تُكشط لينكشف التموضع الاستراتيجي الكامن تحتها. فقد تكون نسبة مئوية صغيرة من الأصناف أو الزبائن هي التي تحقّق معظم مبيعات الشركة، وبخاصة أرباحها. ويتمثّل التحدّي عندها في كيفية إعادة التركيز على هذا الجوهر، وإعادة ترتيب نشاطات الشركة لتتوافق معه. أمّا الزبائن وأصناف المنتجات الواقعين على المحيط بعيداً جوهر التموضع فيتمّ التخلّي عنهم أو تركهم يضمحلّون بعدم الاهتمام بهم أو بزيادة الأسعار.

وقد يكون تاريخ الشركة أيضاً ذاخراً بالعبر والدروس. ماذا كانت رؤية المؤسس الأول؟ ما هي المنتجات الأولية ومن هم الزبائن الذين صنعوا الشركة؟ إذا ما نظر المرء إلى الوراء، فإنه سيكون قادراً على إعادة دراسة الاستراتيجية ليرى إن كانت لا تزال صالحة. هل يمكن تنفيذ التموضع التاريخي السابق بطريقة حديثة تكون متوافقة مع التكنولوجيات والممارسات السائدة اليوم؟ هذا النوع من التفكير قد يقود إلى التزام بتجديد الاستراتيجية وقد يشكّل تحدّياً للمؤسسة لاستعادة تميّزها. وهذا التحدّي بدوره يمكن أن يشكّل صدمة إيجابية وأن يغرس الثقة التي تسمح بإجراء المُعَاوَضَات المطلوبة.

وعندما تكمّل النشاطات بعضها بعضاً، فإن المنافسين لن يحققوا مكاسب كبيرة من التقليد ما لم ينجحوا في تقليد النظام برمّته. وعادة ما تقود هذه الأوضاع إلى نوع من المنافسة يحصد الرابح فيه كافة الجوائز. والشركة التي تبني أفضل نظام للنشاطات – مثل شركة تويز آر أص (Toys R Us)، على سبيل المثال – تربح، في حين يتأخّر المنافسون الذين يمتلكون استراتيجيات مشابهة – مثل تشايلد وورلد (Child World) وليونيل ليجر (Lionel Leisure ) – في اللحاق بركبها. وبالتالي، فإن إيجاد شركة ما لموضع استراتيجي جديد غالباً ما يكون أفضل لها بكثير من أن تكون المقلّد الثاني أو الثالث لموضع يحتلّه الآخرون.

وأكثر المواضع قدرة على البقاء والصمود هي المواضع التي تكون الأنظمة الشاملة لأنشطتها غير قابلة للتقليد بسبب المُعَاوَضَات. فالتموضع الاستراتيجي يحدّد قواعد المُعَاوَضَات التي ستقرّر كيفية تصميم النشاطات الفردية وضمان التكامل بينها. والنظر إلى الاستراتيجية من زاوية أنظمة النشاطات يوضح تماماً السبب في ضرورة كون الهيكليات والأنظمة والعمليات المؤسسية محدّدة في ضوء الاستراتيجية الخاصّة بالشركة. كما أن تصميم المؤسسة وفقاً للاستراتيجية، يسهّل، هو الآخر، تحقيق حالات التكامل ويُسهم في ضمان الاستدامة.

واحدة من الخلاصات المنطقية لهذه الفكرة هي أن المواضع الاستراتيجية يجب أن تمتلك أفقاً زمنياً يمتدّ لعقد من الزمن أو أكثر، وليس لدورة تخطيطية وحيدة. وتُسهم الاستمرارية في تعزيز التحسينات في النشاطات الإفرادية وفي التلاؤم بين مختلف النشاطات، ممّا يسمح للمؤسسة أن تبني قدرات ومهارات فريدة مصمّمة خصيصاً لتناسب استراتيجيتها. كما تعزّز الاستمرارية هوية الشركة.

المواضع الاستراتيجية يجب أن تمتلك أفقاً زمنياً يمتد لعقد من الزمن أو أكثر، وليس لدروة تخطيطية وحيدة.

وفي المقابل فإن التبديل المتكرّر في التموضع باهظ التكلفة. فالشركة ليست مضطرة لأن تعيد تصميم النشاطات الإفرادية فحسب، وإنما يتعيّن عليها أيضاً أن تعيد ترتيب أنظمة بأكملها. وقد لا تتمكّن بعض النشاطات من مواكبة الاستراتيجية المتأرجحة أبداً. ومن النتائج الحتمية للتبدّلات المتكرّرة في الاستراتيجية، أو الفشل في اختيار موضع مُتميّز، تشكيل نشاطات على قاعدة “وأنا أيضاً”، أو إحاطتها بسياج عالٍ، إضافة إلى وجود تضارب بين مختلف الوظائف، وعدم تناسق في التنظيم.

ما هي الاستراتيجية؟ لقد بات بوسعنا الآن استكمال الإجابة عن هذا السؤال. إن الاستراتيجية تعني خلق التلاؤم ما بين نشاطات الشركة. ويتوقّف نجاح الاستراتيجية على تنفيذ أشياء عديدة بطريقة صحيحة –لا بضعة أشياء فقط – وتحقيق التكامل فيما بينها. فإذا لم يكن هناك تلاؤم بين النشاطات، فلن يكون ثمة استراتيجية متميّزة ولا استدامة. كما ستتحوّل الإدارة نحو ممارسة مهمّة أبسط تتمثّل في الإشراف على وظائف مستقلّة، وستكون الفعاليةُ التشغيلية هي من يقرّر الأداءَ النسبيَ للمؤسسة.

خامساً: إعادة اكتشاف الاستراتيجية

الفشل في الاختيار. لماذا تفشل بعض الشركات في امتلاك استراتيجية؟ ولماذا يتحاشى المدراء اتخاذ خيارات استراتيجية؟ وإذا كانوا قد فعلوا في الماضي، فلماذا يتركون الاستراتيجيات تتهاوى، أو تصبح ضبابية؟

إن التهديدات التي تتعرض لها الاستراتيجية يُنظر إليها عادة على أنها تهديدات خارجية سببها التغيرات في التكنولوجيا أو سلوك المنافسين. وعلى الرغم من أن التغيّرات الخارجية قد تكون هي المشكلة، إلا أن التهديد الأكبر للاستراتيجية يأتي غالباً من الداخل. فقد تتقوّض أسس الاستراتيجية جرّاء نظرة مُضلَّلة إلى المنافسين، أو نتيجة حالات فشل تنظيمي في المؤسسة، أو بخاصة، بسبب الرغبة في النمو.

لقد أصبح المدراء يشعرون بالارتباك إزاء ضرورة اتّخاذ الخيارات. وعندما تعمل شركات عديدة بعيداً عن الحد الأقصى للإنتاجية، فإن المُعَاوَضَات تبدو غير ضرورية. وقد تبدو شركة تدار على أحسن وجه قادرة على هزيمة منافسيها غير الفعّالين على جميع الأصعدة في الوقت ذاته. وبما أن المدراء كانوا قد تتلمذوا على أيدي مفكّري الإدارة ذوي الشعبية العالية الذين علّموهم أنهم غير مضطرين إلى إجراء المُعَاوَضَات، فقد اكتسبوا شعوراً “عنترياً” جعلهم يعتبرون أنّ إجراءها دلالة على الضعف.

غير أن فقدان المدراء شجاعتهم أمام توقّع المنافسة المحتدمة، تجعلهم يزيدون من احتمال حصولها بتقليد كل ما هو موجود لدى منافسيهم. وبما أن هؤلاء المدراء يحاذرون التفكير في إحداث ثورة، فإنهم يطاردون كل تكنولوجيا جديدة لذاتها فقط.

إن السعي وراء الفعالية التشغيلية أمر مغرٍ لأنها تقوم على أساس أشياء مادية ملموسة، وتتضمّن إجراءات محدّدة يمكن اتخاذها. وقد تعرّض المدراء خلال العقد الماضي، لضغوط متنامية من أجل إدخال تحسينات على الأداء تكون ملموسة وقابلة للقياس. كما أن برامج الفعالية التشغيلية تنتج تقدّماً مطمئناً، وإن كانت الربحية المتفوّقة قد تظل متقلّبة. كما أن كلاً من المطبوعات المتعلّقة بقطاع الأعمال والمُستشارين التجاريين تُغرق الأسواق بالمعلومات التي تبيّن ما تفعله الشركات الأخرى، ممّا يعزّز ذهنية الممارسات الفضلى. وهناك الكثير من المدراء الذين يجدون أنفسهم عالقين في السباق نحو الفعالية التشغيلية إلى درجة تجعلهم، وبكل بساطة، لا يدركون الحاجة إلى امتلاك استراتيجية.

وتتفادى الشركات اتخاذ الخيارات الاستراتيجية أو تحيطها بشيء من الضبابية لأسباب أخرى أيضاً. فالقناعات الراسخة ضمن أي قطاع تكون غالباً متمكنة بحيث توّحد المنافسة. ويخطئ بعض المدراء في فهم معنى “التركيز على الزبائن” معتقدين أنه يعني وجوب تلبية جميع احتياجات الزبائن، أو التجاوب مع أي طلب يأتي من أقنية التوزيع. بينما يشير آخرون إلى الرغبة في الحفاظ على المرونة.

إن الوقائع في المؤسسة تعمل كذلك ضد الاستراتيجية. فالمُعَاوَضَات مُرعبة، وقد يكون عدم اتخاذ أي خيار مفضّلاً على المجازفة بتلقي اللوم على اختيار سيىء. كما أن الشركات تقلّد بعضها بعضاً في نوع من “سلوك القطيع”، بحيث تفترض كل شركة أن منافسيها يعلمون شيئاً لا تعلمه هي. وهناك الموظفون الذين تلقوا حديثاً المزيد من التفويض والصلاحيات، والذين تحثّهم إدارتهم على البحث عن كل مصدر ممكن للتحسين. وهؤلاء غالباً ما يفتقرون إلى رؤية شاملة وإلى منظور لإدراك المُعَاوَضَات. وقد يكون الفشل في الاختيار أحياناً ناجماً عن التردد في تخييب ظن مدراء أو موظفين أعزاء.

فخ النمو. ومن بين جميع المؤثرات الأخرى، ربما تكون الرغبة في النمو هي التي تترك التأثير العكسي الأكبر على الاستراتيجية. والمُعَاوَضَات والقيود تبدو وكأنها تكبح النمو. فتخديم مجموعة من الزبائن واستبعاد مجموعة أخرى منهم، مثلاً، يفرض قيوداً حقيقية أو مُتخيّلة على نمو الإيرادات. وعادة ما تقود الاستراتيجيات ذات الاستهداف الواسع والتي تشدّد على انخفاض السعر إلى خسارة البيع للزبائن الحساسين تجاه المزايا أو الخدمة. أمّا تحقيق تميز في المنتجات والخدمات فسيؤدي إلى خسارة البيع للزبائن الحسّاسين تجاه الأسعار.

يتعرض المدراء على الدوام لإغراء اتخاذ خطوات إضافية تدريجية تتجاوز هذه الحدود والقيود لكنها تتسبّب في إضفاء الضبابية على الموضع الاستراتيجي للشركة. فالضغوط المفروضة على المدراء لتحقيق النمو، أو التشبّع الظاهر في السوق المستهدفة، تقود هؤلاء المدراء في النهاية إلى تعريض موضعهم للخطر من خلال توسيع خطوط المنتجات، وإضافة مزايا جديدة، وتقليد منتجات المنافسين التي تحظى بالشعبية، وتقليد العمليات لدى الآخرين، بل وحتى الدخول في عمليات استحواذ. فلسنوات طويلة، كان نجاح شركة “مايتاغ” (Maytag Corporation) مستنداً إلى تركيزها على الغسّالات والنشافات الموثوقة والمتينة، وقد توسّعت لاحقاً لصنع جلايات الصحون. غير أن الحكمة التقليدية التي ظهرت في الشركة دعمت مفهوم بيع خط كامل من المنتجات. وقد انتاب “مايتاغ” القلق جرّاء النمو البطيء في القطاع ومنافسة صانعي الأدوات الكهربائية المنزلية الذين يملكون خطوط إنتاج واسعة، وراح الوكلاء يضغطون عليها والزبائن يشجعونها لتوسيع خط منتجاتها. فوسّعت “مايتاغ” أعمالها لتشمل الثلاجات ومنتجات الطهي التي حملت اسم العلامة التجارية “مايتاغ” فضلاً عن علامات تجارية أخرى استحوذت عليها – مثل “جين أير” (Jenn-Air)، و”هاردويك ستوف” (Hardwick Stove)، و”هوفر” (Hoover)، و”أدميرال” (Admiral)، و”ماجيك تشيف” (Magic Chef) – المتباينة التموضع. وقد سجّلت “مايتاغ” نموّاً هائلاً من 684 مليون $ في 1985 إلى الذروة في عام 1994 عندما وصل الرقم إلى 3.4 مليار $، غير أن العائد على المبيعات تراجع من (8 %إلى %12) في عقدي السبعينيات والثمانينيات، إلى وسطي يقل عن 1 %بين 1989 و1995. من المؤكّد أن خفض التكاليف سيحسّن هذا الأداء، لكن منتجات الغسيل والتنشيف والجلايات لازالت هي الأساس الراسخ لربحية “مايتاغ”.

ربما تكون “نتروجينا” قد سقطت في الفخ ذاته. ففي مطلع التسعينيات، اتّسعت أقنية توزيع هذه الشركة في الولايات المتّحدة الأميركية لتشمل سلاسل المتاجر الضخمة التي تبيع السلع على نطاق واسع مثل “وول مارت” (Wal-Mart). كما وسّعت الشركة من أصناف منتجاتها التي ظلت تحمل اسمها “نتروجينا”، فراحت مثلاً تصنع مزيل مستحضرات التجميل والشامبو، وهي مجالات لم تكن تتمتّع بالفرادة فيها، الأمر الذي شوّش صورتها فبدأت تتحوّل نحو الحملات الترويجية التي تقوم على تخفيض الأسعار.

إن التنازلات التي تُقْدِمُ عليها الشركات، وحالات عدم الاتساق التي تظهر عليها في معرض ركضها وراء النمو، سوف تؤدّي إلى تآكل الميزة التنافسية التي كانت تحصل عليها هذه الشركات من أصنافها الأصلية، أو زبائنها الأصليين المستهدفين. كما أن المحاولات الرامية إلى المنافسة بطرق عدّة في الوقت ذاته تخلق حالة من الإرباك وتقوّض الدوافع والتركيز الموجودين لدى المؤسسة. فالأرباح تتراجع، لكن الشركة تجد أن الإجابة تكمن في المزيد من الإيرادات. ويصبح المدراء غير قادرين على اتخاذ الخيارات، لذلك تنطلق الشركة في جولة جديدة من التوسّع والتنازلات. وفي غالب الأحيان يواصل المتنافسون تقليد بعضهم البعض حتى يأتي اليأس فيكسر هذه الدورة، ممّا ينجم عنه عمليات اندماج أو تقليص أعمال إلى التموضع الأصلي.

النمو المُربِح. بعد عقد من عمليات إعادة الهيكلة وخفض التكاليف، عادت شركات عديدة لتوجّه اهتمامها نحو النمو. وفي غالب الأحيان، تتسبّب الجهود المبذولة من أجل النمو في إضفاء شيء من الضبابية على الفرادة التي تميّز الشركة، وتقود إلى تنازلات، وتقلّل من مدى التلاؤم، وفي نهاية المطاف تقوّض الميزة التنافسية. إن حتمية النمو، في الحقيقة، تشكّل خطراً على الاستراتيجية.

فما هي منهجيات النمو التي تحافظ على الاستراتيجية وتعزّزها؟ تتمثّل الوصفة السحرية في التركيز على تعميق موضع استراتيجي معيّن عوضاً عن توسيعه أو تعريضه للخطر والتنازلات. وإحدى المنهجيات التي يمكن اتّباعها تقوم على البحث عن توسيعات إضافية محتملة في الاستراتيجية تشكّل رافعة لنظام النشاطات الحالي، من خلال تقديم مزايا أو خدمات تجعل المنافسين يشعرون بأن تقليدها مستحيل أو باهظ التكلفة. بعبارة أخرى، بوسع المدراء أن يسألوا أنفسهم أي النشاطات، أو المزايا، أو أشكال المنافسة هي المجدية أو الأقل تكلفة بالنسبة لهم بسبب النشاطات المتكاملة التي تؤدّيها شركتهم.

يتضمّن ترسيخ موضع معيّن جَعَل نشاطات الشركة أكثر تميّزاً، وتعزيز التلاؤم، وتحسين عملية إبلاغ الاستراتيجية إلى الزبائن الذين يجب أن يثمّنوها عالياً. لكن العديد من الشركات ترضخ لإغراء مطاردة النمو “السهل” من خلال إضافة ميزات أو منتجات أو خدمات جذابة دون عرضها للفحص على استراتيجية الشركة، أو تكييفها وفقاً لهذه الاستراتيجية. أو تحاول استهداف زبائن جدداً أو أسواق جديدة ليس لديها الكثير لتقدّمه فيها. وغالباً ما تكون الشركة قادرة على تحقيق نمو أسرع – لا بل وربحية أكبر– من خلال تحسين تلبية الاحتياجات أو تحسين الأصناف في الأماكن التي تتمتّع فيها بالتميّز، بالمقارنة مع مطاردة هذا النمو والربحية في الساحات التي تنطوي على احتمالات نمو أعلى، لكن الشركة تفتقر فيها إلى الفرادة أو التميّز. فشركة “كارمايك” باتت الآن أكبر سلسلة لصالات السينما في الولايات المتّحدة الأميركية، وهي مدينة بنموّها السريع إلى تركيزها المنضبط على الأسواق الصغيرة. وإذا ما استحصلت على صالات للسينما في مدن كبيرة تأتي إليها كجزء من عملية استحواذ، فإنها تسارع إلى بيعها فوراً.

غالباً ما تسمح العولمة بالنمو المتوافق مع الاستراتيجية، فاتحة أسواقاً كبيرة أمام الاستراتيجيات المركّزة. وخلافاً للتوسّع في الأسواق المحلية، فإن التوسّع العالمي سيؤدّي على الأغلب إلى تعزيز الموضع الفريد والهوية المتفرّدة للشركة والاستفادة منهما.

وبالنسبة للشركات الساعية وراء النمو من خلال التوسّع ضمن قطاعها، فإن أفضل طريقة تساعدها في احتواء المخاطر المحيطة بالاستراتيجية هي من خلال إنشاء وحدات قائمة بذاتها، بحيث يكون لكل واحدة منها علامتها التجارية المنفصلة ونشاطاتها المفصّلة بحسب احتياجاتها. وقد كانت معاناة “مايتاغ” مع هذه القضية واضحة للعيان. فهي، من جهة، قد لجأت إلى تنظيم علاماتها التجارية الأساسية ذات القيمة العالية ضمن وحدات منفصلة لها مواضع استراتيجية مختلفة. لكنها، من جهة أخرى، أنشأت شركة أدوات كهربائية منزلية تشكّل مظلة لجميع علاماتها التجارية من أجل كسب ما يُسمى “الكتلة الحرجة” (critical mass) (أي الكمية الكبيرة بما يكفي). ومع وجود تشارك في التصميم، والتصنيع، والتوزيع، وخدمة الزبائن، سيكون من الصعب تفادي التجانس. فإذا حاولت وحدة تجارية معيّنة المنافسة مع مواضع مختلفة على منتجات مختلفة أو زبائن مختلفين، فمن شبه المستحيل التمكن حينها من تفادي تقديم التنازلات.

دور القيادة. غالباً ما يكون التحدّي المرتبط بتطوير استراتيجية واضحة أو إعادة ترسيخ الاستراتيجية الواضحة بالأساس تحدّياً تنظيمياً في المؤسسة وهو يتوقّف على القيادة. فمع وجود الكثير من القوى التي تعترض سبيل عملية اتخاذ الخيارات وإجراء المُعَاوَضَات في المؤسسات، يُعتبر وجود إطار فكري واضح لتوجيه الاستراتيجية أمراً ضرورياً لموازنة تلك القوى؛ كما أن وجود قادة أقوياء مستعدّين لاتخاذ الخيارات مسألة بالغة الأهمية.

حصل في العديد من الشركات تدهور في دور القيادة الذي بات يقتصر على تنسيق التحسينات التشغيلية وعقد الصفقات. لكن دور القائد أوسع وأهم من ذلك بكثير. فالإدارة العامّة هي أكثر من مجرّد أداء دور إشرافي على وظائف إفرادية. بل إن جوهر الإدارة العامة هو الاستراتيجية: أي تعريف الموضع الفريد للشركة وإبلاغه إلى الآخرين من خلال التواصل معهم، وإجراء المُعَاوَضَات، وضمان تحقيق التلاؤم بين النشاطات. فالقائد هو ضابط الإيقاع الذي يقرّر ما هي التغيّرات التي تطرأ على القطاع، وما هي احتياجات الزبائن التي يتعيّن على الشركة التجاوب معها، وفي الوقت ذاته تفادي أي تشتت في انتباه المؤسسة، والمحافظة على فعاليتها. ويفتقر القادة الموجودون في المستويات الدنيا إلى النظرة والثقة اللتين تساعدانهم في المحافظة على الاستراتيجية. وستكون هناك على الدوام ضغوط مفروضة لتقديم التنازلات، وإجراء المُعَاوَضَات، وتقليد المنافسين. وتتمثّل إحدى وظائف القائد في إطلاع الآخرين على الاستراتيجية – وهكذا دواليك.

تمنح الاستراتيجية إمكانية اختيار الأشياء التي لا ينبغي القيام بها تماماً كما تمنح امكانية اختيار الأشياء التي ينبغي القيام بها. فترسيم الحدود هو أيضاً من الوظائف الأخرى للقيادة. ويُعتبر تقرير أي مجموعات من الزبائن أو الأصناف أو الاحتياجات على الشركة أن تخدمها أساسياً في تطوير الاستراتيجية. ولكن من الأساسي أيضاً أن تقرّر الشركة عدم تخديم فئات أخرى من الزبائن أو الاحتياجات، وعدم تقديم مزايا أو خدمات معيّنة. وبالتالي فإن الاستراتيجية تتطلّب حالة دائمة من الانضباط والتواصل الواضح مع الموظفين. فواحدة من أهم وظائف الاستراتيجية الصريحة التي تُبلغ إلى الموظفين هي أن تكون موجِّهاً لهم عندما يضطرون إلى اتخاذ الخيارات بسبب وجود مُعَاوَضَات محتملة في نشاطاتهم الفردية، وكذلك في قراراتهم اليومية.

يُعتبر تحسينُ الفعالية التشغيلية جزءاً ضرورياً من الإدارة، لكنه ليس الاستراتيجية. والمدراء الذين يخلطون بين الاثنتين انحدروا دون أن ينتبهوا إلى طريقة في التفكير بالتنافس تُسهم في قيادة العديد من الصناعات نحو التقارب التنافسي، وهو أمر ليس في مصلحة أحد كما أنه ليس حتمياً.

يتعيّن على المدراء أن يميّزوا بوضوح بين الفعالية التشغيلية والاستراتيجية. فكلتاهما أساسيتان، لكن جدولي الأعمال في هاتين الحالتين مختلفان.

يشمل جدول الأعمال التشغيلي التحسين المتواصل في كل مكان ليست فيه مُعَاوَضَات. والإخفاق في هذا التحسين يخلق حالة من الهشاشة والضعف حتى في الشركات التي تمتلك استراتيجية جيدة. كما أن جدول الأعمال التشغيلي هو المكان المناسب للتغيير الدائم، والمرونة، وبذل الجهود الحثيثة لتحقيق الممارسات الفضلى. وفي المقابل، فإن جدول الأعمال الاستراتيجي هو المكان المناسب لتحديد موضع فريد، وتوضيح المُعَاوَضَات، وتقوية التلاؤم. وهو ينطوي على بحث دؤوب ومتواصل عن طرق لتعزيز موضع الشركة وتوسعته. ويتطلّبُ جدول الأعمال الاستراتيجي الانضباط والاستمرارية؛ أمّا أعداؤه فهم تشتت الانتباه والتنازلات.

لكن الاستمرارية الاستراتيجية لا تعني ضمناً امتلاك نظرة سكونية للمنافسة. فالشركة يجب أن تواصل تحسين فعاليتها التشغيلية وأن تنشط في محاولة لدفع الحد الأقصى للإنتاجية قدماً؛ وفي الوقت ذاته، ينبغي بذل جهود متواصلة لتوسيع فرادة الشركة، مع تقوية التلاؤم بين النشاطات. إذ يجب على الاستمرارية الاستراتيجية، عملياً، أن تجعل التحسين المتواصل في الشركة أكثر فعالية.

قد تضطر الشركة إلى تغيير استراتيجيتها إذا كانت هناك تغيّرات بنيوية تطرأ على القطاع. وبالفعل، فإن المواضع الاستراتيجية تنشأ غالباً بسبب التغيّرات الحاصلة في القطاع، وقدرة القادمين الجدد إلى السوق على استغلال هذه التغيّرات بسهولة أكبر بما أنهم متحرّرون من عبء التاريخ الذي يثقل كاهل منافسيهم. بيد أن اختيار أي شركة لموضع جديد يجب أن يكون مدفوعاً بقدرتها على إيجاد مُعَاوَضَات جديدة والاستفادة من نظام جديد من النشاطات المتكاملة للوصول إلى ميزة مستدامة.

الشركات اليابانية نادراً ما تكون لديها استراتيجية

أحدث اليابانيون ثورة عالمية في مجال الفعالية التشغيلية في أواخر عقدي السبعينيات والثمانينيات من القرن العشرين، حيث كانوا الروّاد في إطلاق ممارسات من قبيل إدارة الجودة الشاملة والتحسين المتواصل. ونتيجة لذلك، فقد تمتّع المصنّعون اليابانيون ولسنوات عديدة بميزات هائلة في مجالي التكلفة والجودة.

غير أن الشركات اليابانية نادراً ما طوّرت مواضع استراتيجية متميّزة من النوع الذي نوقش في هذه المقالة. أمّا الشركات التي فعلت ذلك، – مثل “سوني”، و”كانون”، و”سيغا” – فقد شكلت الاستثناء وليس القاعدة. ومعظم الشركات اليابانية تقلّد بعضها بعضاً. كما أن جميع الشركات المتنافسة تقدّم معظم – إن لم يكن جميع – أصناف المنتجات، والمزايا، والخدمات؛ وهي توظف كافة الأقنية كما أنها تقلّد بعضها البعض في طريقة تصميم المعامل.

لقد بات من الأسهل اليوم تمييز مخاطر الأسلوب الياباني في المنافسة. ففي ثمانينيات القرن العشرين، وبما أن المنافسين كانوا قد انطلقوا من أرضية بعيدة عن الحدود القصوى للإنتاجية، فقد بدا الفوزُ على جبهتي الجودة والتكلفة ممكناً وإلى ما لا نهاية. وتمكّنت الشركات اليابانية جميعها من النمو ضمن سوق محلية آخذة بالاتساع، ومن خلال اختراق الأسواق العالمية كذلك. لقد بدا وكأنّ أحداً لن يستطيع وضع حدّ لتقدّمها. ولكن بعد أن باتت الفجوة في الفعالية التشغيلية تضيق شيئاً فشيئاً، وجدت الشركات اليابانية نفسها وبصورة متزايدة عالقة في فخ نصبته لنفسها. فإذا ما أرادت هذه الشركات أن تتحرّر من تلك المعارك المدمّرة لجميع الأطراف المعنية بها، يتعيّن عليها أن تتعلّم الاستراتيجية.

ولكي تتعلّم الشركات اليابانية الاستراتيجية، ينبغي عليها أن تتغلّب على العوائق الثقافية القوية. فاليابان تركّز تركيزاً رهيباً على التوافق في الآراء، وتميل الشركات كثيراً إلى التوسّط في الخلافات الناشئة بين الأفراد عوضاً عن تسليط الضوء عليها وتضخيمها. أمّا الاستراتيجية، من جهة أخرى، فتتطلّب اتخاذ خيارات صعبة. كما أن لدى اليابانيين تقليداً راسخاً جدّاً في مجال تقديم الخدمة يجعلهم مهيئين للمضي بعيداً في سبيل إرضاء أي حاجة يعبّر الزبون عنها. والشركات التي تتنافس بهذه الطريقة ينتهي بها المطاف وقد شوّشت موضعها الاستراتيجي، بحيث تصبح “كل شيء لكل الزبائن”.

هذه المناقشة لليابان مستندة إلى بحث أجراه المؤلف مع هيروتاكا تاكيوتشي (Hirotaka Takeuchi)، بمساعدة ماريكو ساكاكيبارا (Mariko Sakakibara).

إيجاد مواضع جديدة:

الأوّلية هي لروّاد الأعمال

يمكن النظر إلى المنافسة الاستراتيجية على أنها عملية تخيّل للمواضع الجديدة التي ستستقطب الزبائن إليها بعيداً عن المواضع الراسخة سابقاً أو التي ستسحب زبائن جدداً إلى السوق. فعلى سبيل المثال، المتاجر الضخمة التي تقدّم تنوعاً كبيراً من الخيارات في فئة وحيدة من المنتجات تأخذ حصّة سوقية من المتاجر المتعدّدة الأقسام التي تقدّم تشكيلة أكثر محدودية في العديد من فئات المنتجات. فالشركات التي ترسل دليل السلع (catalog) بالبريد إلى البيوت ليختار الناس منها طلبياتهم، تستقطب الزبائن الذين يعشقون راحتهم الشخصية. ومن حيث المبدأ، تواجه الشركات القائمة وروّاد الأعمال الجدد التحدّيات ذاتها في إيجاد مواضع استراتيجية جديدة. لكن من الناحية العملية، فإن الداخلين حديثاً هم الذين يحرزون قصب السبق.

ليست المواضع الاستراتيجية واضحة غالباً، ويحتاج العثور عليها إلى إبداع وبصيرة ثاقبة. والداخلون حديثاً إلى السوق غالباً ما يكتشفون مراكز فريدة كانت موجودة لكن المنافسين، وبكل بساطة، قد فاتهم الانتباه إليها. فشركة إيكيا، على سبيل المثال، اكتشفت مجموعة من الزبائن الذين أُهْمِلوُا أو لم يحصلوا على خدمة جيدة. كما أن دخول متاجر سيركيوت سيتي (Circuit City) إلى مجال السيارات المستعملة من خلال كارماكس (CarMax) يستند إلى طريقة جديدة في تنفيذ النشاطات – التعمير الشامل للسيارات، وضمانات المنتج، وعدم المساومة على السعر، واستعمال طرق مبتكرة لتمويل شراء الزبائن للسيارات من خلال تقديم خطط تمويلية داخلية من قبل الشركة ذاتها. علماً أنها كانت متاحة نظرياً منذ فترة طويلة أمام الشركات القائمة.

يمكن للقادمين الجدد أيضاً تحقيق الازدهار من خلال تقليد موضع شغله أحد المنافسين سابقاً لكنه تآكل نتيجة سنين طويلة من التقليد و”وضع قدم هنا وقدم هناك”. كما يستطيع القادمون الجدد من صناعات أخرى خلق مواضع جديدة انطلاقاً من النشاطات المتميّزة المستمدّة من أعمالهم الأخرى. تستعين “كار ماكس” استعانة هائلة بخبرة “سيركوت سيتي” في إدارة المخزونات، والائتمان، وغير ذلك من النشاطات في قطاع التجزئة الخاص بالإلكترونيات الاستهلاكية.

غير أن الأكثر شيوعاً هو بروز مواضع جديدة نتيجة التغيّر الحاصل. فقد تظهر مجموعة جديدة من الزبائن أو من فرص الشراء؛ كما أن حاجات جديدة تنشأ مع تطوّر المجتمعات؛ وتظهر أقنية توزيع جديدة؛ وتتطوّر تكنولوجيات جديدة؛ وتتوفر آلات أو أنظمة معلومات جديدة. عندما تحصل هذه التغيّرات، يمكن للقادمين الجدد، الذين لا يُثقل كاهلهم عبء التاريخ القديم للصناعة، أن يتحلّوا بمرونة أكبر لأنهم غير مضطرين إلى مواجهة مُعَاوَضَات مع نشاطاتهم الحالية.

الصناعات والتكنولوجيات الناشئة حديثاً

يُعتبر تطوير استراتيجية ضمن صناعة ناشئة حديثاً أو ضمن قطاع تجاري يمر في خضم تغيّرات تكنولوجية ثورية أمراً محفوفاً بالرهبة. وفي مثل هذه الحالات، يشعر المدراء بقدر كبير من الغموض تجاه احتياجات الزبائن، والمنتجات والخدمات التي سيَثبُت أنها الأكثر استحساناً لديهم، وتجاه أفضل تصميم للنشاطات والتكنولوجيات يمكن تقديمه. وبسبب هذا الغموض، نجد تفشّياً واسعاً لعمليات تقليد المنافسين للتحوّط من المخاطر: فبما أن الشركات لا تريد المغامرة باتخاذ قرار خاطئ، أو مواجهة احتمال أن يفوتها القطار، فإنها تلجأ إلى تقليد جميع المزايا، وتقديم عموم الخدمات الجديدة، واستكشاف كافة التكنولوجيات.

خلال هذه الحقب من تطوّر أي صناعة، يجري رسم – أو إعادة رسم – ما يُسمّى “الحدود القصوى للإنتاجية” الأساسية لهذا القطاع. ويمكن للنمو الهائل المتفجّر أن يدرّ في تلك الأوقات أرباحاً كبيرة للعديد من الشركات، لكن الأرباح ستكون مؤقتة لأن التقليد والتقارب الاستراتيجي بين المتنافسين سيدمّر ربحية هذه الصناعة في نهاية الأمر. أمّا الشركات التي ستحافظ على نجاحها المتواصل فستكون تلك التي تبدأ في أبكر وقت ممكن في تحديد موضع تنافسي فريد من نوعه وإدراجه ضمن نشاطاتها. وقد تكون حقبة التقليد حتمية في الصناعات الناشئة، لكن تلك الحقبة تعكس مستوى الغموض وعدم اليقين أكثر من كونها تعكس وضعاً مرغوباً.

في الصناعات القائمة على التقنية العالية، غالباً ما تستمرّ حقبة التقليد هذه لفترة أطول ممّا يجب. فابتهاج الشركات الشديد بالتغيّر التكنولوجي الحاصل بحدّ ذاته يدفعها إلى إدخال المزيد من المزايا إلى منتجاتها، علماً أن معظمها لا يُستخدم أبداً، بينما تعمل في الوقت ذاتها على تخفيض الأسعار على نحو شامل. ونادراً ما تنظر هذه الشركات في إمكانية المُعَاوَضة. فالدافع إلى النمو بغية مواجهة ضغوط السوق يقود الشركات إلى دخول كل مجال من مجالات المُنْتَج. ورغم أن عدداً قليلاً فقط من الشركات التي تمتلك ميزات جوهرية هو من يزدهر، إلا أن الغالبية بحكومة بالدخول في سباق لا يمكن لأي كان أن يربحه.

اقرأ أيضاً: 8 أسئلة صعبة لتطرحها حول استراتيجية شركتك

لكن المفارقة في الأمر تكمن في أن الصحافة الاقتصادية التي تحظى بالشعبية، والتي تركّز على الصناعات الساخنة الناشئة، تميل إلى تقديم هذه الحالات الخاصّة المتعلقة بسؤال ما هي الاستراتيجية بشكل خاص بوصفها إثباتاً على أننا قد دخلنا حقبة جديدة من المنافسة لا تصلح فيها أي من القواعد القديمة. لكن الحقيقة أنّ العكس هو الصحيح.

كنت قد وصفت مفهوم النشاطات واستعماله في فهم الميزة التنافسية في كتابي “الميزة التنافسية” (Competitive Advantage) (الصادر عن نيويورك: ذي فري برس عام 1985). وهذا المقالة تبني على ما ورد في الكتاب من أفكار وتحاول الإضافة عليها.
بدأ كل من بول ميلغروم (Paul Milgrom) وجون روبرتس (John Roberts) استكشاف الجوانب الاقتصادية لنظام الوظائف المتكاملة، وللنشاطات، وللوظائف. وتركيزهم منصبّ على ظهور “التصنيع الحديث” بوصفه مجموعة جديدة من النشاطات المتكاملة، وعلى ميل الشركات إلى إبداء ردود الأفعال تجاه التغيّرات الخارجية من خلال مجموعات متناغمة من الاستجابات الداخلية، وعلى الحاجة إلى تنسيق مركزي – استراتيجية – من أجل تنسيق عمل مدراء الوظائف. في الحالة الأخيرة، وضعوا نموذجاً لما كان المبدأ الأساسي للاستراتيجية ومنذ زمن طويل. راجعوا مقالة بول ميلغروم وجون روبرتس “الجوانب الاقتصادية للتصنيع الحديث: التكنولوجيا، والاستراتيجية، والمؤسسة” (The Economics of Modern Manufacturing: Technology, Strategy, and Organization)، في مجلة أميريكان إيكونوميك ريفيو (American Economic Review)، العدد 80 (1990) ص 511-528؛ وبول ميلغروم، وينغيي تشان، وجون روبرتس “حالات التكامل، والزخم، وارتقاء التصنيع الحديث،” (Complementarities, Momentum, and Evolution of Modern Manufacturing)، في مجلة أميريكان إيكونوميك ريفيو (American Economic Review)، العدد 81 (1991) ص 84-88؛ وبول ميلغروم وجون روبرتس “حالات التكامل والتلاؤم: والاستراتيجية، والبنية، والتغيّرات المؤسسية في التصنيع” (Complementarities and Fit: Strategy, Structure, and Organizational Changes in Manufacturing)، في مجلة المحاسبة وعلم الاقتصاد (Journal of Accounting and Economics)، المجلّد 19، (مارس/ آذار – مايو/ أيار 1995) ص 179-208.
المواد المتعلّقة باستراتيجيات التجزئة مستمدّة جزئياً من يان ريفكين (Jan Rivkin)، “صعود قتلة فئات التجزئة” (The Rise of Retail Category Killers) وهي ورقة عمل غير منشورة، يناير/ كانون الثاني، 1995. نيكولاي سيغيلكو (Nicolaj Siggelkow) هو من حضّر الحالة الدراسية الخاصة بشركة “غاب”.
ملاحظة المؤلف: لقد استفادت هذه المقالة استفادة هائلة جرّاء المساعدة التي قدّمها عدد من الأفراد والشركات. ويتوجّه المؤلف بشكر خاص إلى يان ريفكين (Jan Rivkin) المؤلف المشارك في بحث آخر ذي صلة. كما أن كلاً من نيكولاي سيغيلكو (Nicolaj Siggelkow)، ودون سيلفستر (Dawn Sylvester)، ولوسيا مارشال (Lucia Marshall)، وتارون خانا (Tarun Khanna)، وروجر مارتن (Roger Martin)، وأنيتا ماك غان (Anita McGahan) قد قدّموا إسهامات بحثية عظيمة، فضلاً عن ملاحظات غنية وهامّة.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .