الدراسات الاستقصائية للعملاء ليست بديلاً عن التحدث إليهم

6 دقائق
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

لن أنسى أبداً تلك الاستبانة التي وضعت في يدي أثناء رحلتي الجوية من لوس أنجلس إلى سيدني. لقد كانت استبانة ضخمة، مكونة من عدد كبير من الصفحات المليئة بالأسئلة التفصيلية ذات الخيارات المتعددة – وقد بدا لي أن ملء الاستبانة سيحتاج إلى مدة الرحلة كاملة والتي تبلغ 13 ساعة. بدأت في ملء الاستبانة لكنني توقفت في منتصفها لأنني وجدتها طويلة ومضنية، وتساءلت: هل تعتقد الإدارة حقاً أنها ستحصل على بيانات صحيحة ويُعتد بها عن طريق تنظيم هذه الاستبانات؟

بالنسبة للكثير من المؤسسات، تُعد مثل هذه الاستبانات بديلاً حقيقياً عن “التحدث إلى الزبائن” ومكافئاً له. وهي واسعة الانتشار – تجدها في غرف الفنادق وفي أقسام العناية المشددة ضمن المستشفيات وتظهر لك بعد عمليات الشراء عبر الإنترنت. ولكن هل هذه الاستبانات مؤهلة حقاً بوصفها استشارة واقعية للعملاء؟ أم أنها من أعراض الإدارة المعزولة عن الواقع والتي ترغب في الظهور بمظهر المهتم برأي العملاء؟ ما الذي يمكن القيام به كبديل أفضل عن تنظيم مثل هذه الاستبانات؟

إن الجواب البديهي هو التحدث إلى العملاء مباشرة. بيد أنّ فكرة مقابلة العملاء فرادى غالباً ما تخيف المدراء التنفيذيين اعتقاداً منهم أنها تكلف الكثير من الوقت والمال. ولذلك فهم يفضلون الجلوس مع بعض مستشاريهم و”تخمين” ما يريده العملاء – أو الشركاء – وذلك بناء على الإجابات الواهية والفاترة والمبهمة التي يجمعونها من مثل تلك الاستبانات. لكن هذا النهج عادة ما يؤدي إلى إجابات مضللة واستراتيجيات فاشلة.

فيا ليتهم يعلمون مدى بساطة ووضوح مقابلات العملاء ومدى غنى نتائجها، إذا ما أُجريت بالشكل والمضمون الصحيحين.

في بداية ورشات العمل التي أنظّمها حول التخطيط الاستراتيجي أجري تجربة بسيطة يكون لها بالغ الأثر في نفوس الجمهور المشارك. أختار مثال المتجر المحلي لشرح تجربتي، بما أنّ جميع الناس لا بدّ وأن يتعاملوا مع أحد تلك المتاجر لشراء حاجياتهم اليومية، وأطرح على المشاركين سؤالاً يبدو شديد البساطة: “ما هو المعيار الذي تختارون بناء عليه متجركم المفضل دون سواه؟”.

من خلال الإجابة عن هذا السؤال يكون المشاركون قد خطوا أولى خطواتهم على طريق التفكير والتخطيط الاستراتيجيين.

تأتي الإجابات عن هذا السؤال سريعة وتشير دائماً إلى أحد المعايير الستة التالية: الموقع، وتوقيت فتح المتجر للزبائن، وتنوع البضائع المعروضة للبيع، وهيئة المتجر وتصميمه، وخدمة الزبائن، والأسعار. أطلق على هذه المعايير اسم “العوامل الاستراتيجية” لإدارة متجر محلي منافس، وأشرح للمشتركين كيف أن بمقدور كل شركة أن تحدد لائحة عواملها الاستراتيجية الخاصة بها وتستفيد منها كقاعدة لتطوير استراتيجياتها المرتبطة بالعملاء بهدف منح الشركة سمات متميزة وميزات تنافسية بين مثيلاتها.

إنّ ما يتفاجأ به الجمهور ولا يتوقعونه في بداية ورشة العمل هو أنّ الحصول على العوامل الاستراتيجية الستة يتطلب إجابات مجموعة من الأشخاص، ولا يمكن لشخص أن يحدد تلك العوامل مجتمعة بمفرده. ذلك لأن الخبرات الحديثة لكل شخص مع المتجر المحلي الذي يتعامل معه تدفعه لتذكر واحد من تلك العوامل. فإذا ما اختار أحد المشاركين متجره المفضل بناء على تصميمه الذي يسمح بإيجاد البضائع داخله بسهولة، فإن أول ما يتذكره هو هيئة المتجر وتصميمه. وإذا ما بحث شخص آخر مؤخراً عمن يساعده لوضع السلع المشتراة في السيارة، فإنه سيتذكر فوراً خدمة الزبائن. وإذا كانت الأسعار هي العامل الأهم بالنسبة لشخص ثالث، سيتبادر إلى ذهنه الأسعار في المقام الأول. ومع ذلك لا يمكن الانتقاص من أهمية العوامل مجتمعة، وهذا ما يوافق عليه المشاركون كافة.

ولكن كيف يمكن الانطلاق من هذه التجربة للوصول إلى أنّ مقابلات الزبائن تؤدي إلى نتائج أصح وأكثر فائدة من تنظيم الاستبانات؟

لنأخذ على سبيل المثال شركة عملت معها مؤخراً تقدم طيفاً من خدمات الهندسة والتخطيط لعملائها في مختلف أنحاء البلاد، وسأدعوها شركة “كوماند” (Command). عملاؤها هم في الواقع مؤسسات كبيرة تعمل في مشاريع ضخمة للتعدين واستخراج الثروات الباطنية وتشييد المباني ذات الطوابق المتعددة وتطوير المناطق السكنية الكبيرة. وأثناء التحضير لتجربة تدريبية حول التخطيط الاستراتيجي طلب مني الرئيس التنفيذي للشركة أن أجري مقابلات مع 12 عميلاً أساسياً.

إذا كنت تفكر مثل غالبية الناس، فإنّ رد فعلك الأولي قد يكون: “ماذا، فقط 12 عميلاً؟ إن عدد العينات صغير جداً ولا يمكنه أن يعطي أي نتائج مفيدة”.

ولكن ما يهمك من إجراء المقابلات مع العملاء هو النوعية لا الكمية. إنك تسعى إلى معرفة طريقة تفكيرهم حول مواضيع محددة وآلية اتخاذهم القرارات. إنك ترغب في الدخول إلى أذهانهم، وتكوين فكرة عن حاجاتهم ورغباتهم وأوجاعهم. ولا يمكنك الحصول على ذلك كله من خلال الاستبانات.

في المقابلات التي أجريت بعضها شخصياً وبعضها الآخر عبر الهاتف، طرحت السؤال التالي إلى جانب عدة أسئلة أخرى: “ما هي المعايير التي تأخذها بالحسبان للاختيار بين شركة كوماند والشركة المنافسة؟”. لاحظ أنّ هذا السؤال مفتوح، ولاحظ أيضاً الشبه بينه وبين السؤال الذي أطرحه على المشاركين في مثال المتجر المحلي في ورشات العمل التي أنظمها.

لكن هنالك فارق رئيس في آلية طرح السؤال: ففي ورشة العمل كنت أمام مجموعة من عملاء المتاجر المحلية مجتمعين في غرفة واحدة وفي نفس الوقت؛ أما بالنسبة لشركة كوماند، فلقد كنت أتحدث مع كل عميل على حدة، وهنا اتضحت الصورة الكاملة شيئاً فشيئاً وبشكل أبطأ مما كانت عليه الحال في ورشة العمل. ولكنني هنا أيضاً، كما في تجربة المتجر، لم أتوقع أن يزودني أي عميل واحد بالمجموعة الكاملة من المعايير أو العوامل الاستراتيجية. فجواب كل عميل على حدة مرتبط بخبرته الشخصية؛ إذ ذكر أحد العملاء معيار “الأمان” بوصفه العامل الأهم بالنسبة له، لأنه عامل مركزي بالنسبة لسياسات شركته.

وبالمجمل ذكر العملاء بالنسبة لشركة كوماند سبعة عوامل هي: الإمكانية (المقدرة على تنفيذ العمل المطلوب)، وخدمة الزبون (المفصّلة وفق احتياجات الزبون الخاصة)، وجودة التنفيذ (بما يلبي أرفع المعايير المهنية)، والسعر، والانتشار (تموضع المكاتب عبر البلاد)، والأمان (من حيث سجل الأمان للمشاريع المنفذة سابقاً).

وإلى جانب هذه اللائحة القيمة من العوامل الاستراتيجية، نتج عن المقابلات دلالات أخرى بالغة الأهمية. إحدى هذه الدلالات كانت ذات صلة بلائحة العوامل الاستراتيجية نفسها؛ حيث توصل العملاء إلى لائحة عوامل أكثر وضوحاً من اللائحة التي كان بمقدور الإدارة التوصل إليها. ذلك لأن رؤية العملاء كانت موجهة “من الخارج إلى الداخل” ومدفوعة بحاجات العملاء، في حين كانت رؤية الإدارة موجهة “من الداخل إلى الخارج” ومشوبة بتفاصيل السياسات الداخلية والتجاذبات الوظيفية.

وقد نتج عن المقابلات مع العملاء معلومة إضافية ذات أهمية خاصة بالنسبة لتصور شركة كوماند حول تطورها المستقبلي. كانت الشركة قد نمت وتوسعت مؤخراً من خلال استحواذها على عدد من الشركات الأخرى العاملة ضمن مجال عملها الرئيسي والمجالات المجاورة، الأمر الذي وسع طيف خدماتها ومدى عملياتها لتشمل البلاد بأكملها. وقد كانت إدارة الشركة ومجلس إدارتها على قناعة راسخة بأن توسع الشركة هذا سيمنحها ميزة تنافسية مهمة.  

لكن هذا الاعتقاد لم تؤكده مقابلات العملاء، الذين بينوا أنهم لم يروا أي ترابط وثيق بين الطيف الواسع والمتباعد من الخدمات الجديدة. وأشاروا علاوة على ذلك إلى أن فروع الشركة في المناطق المختلفة كانت تتخذ قراراتها محلياً وليس بشكل مركزي وموحد على مستوى البلاد. وبينما رأت إدارة الشركة أن توسعها جاء بشكل طبيعي ومنطقي ومناسب، لم تتطابق تلك الرؤية مع رؤية العملاء. وهكذا خضعت شركة كوماند لعملية إعادة هيكلة بناء على فرضية مغلوطة.

لقد شكلت مقابلات العملاء فرصة أمام شركة كوماند للتحقق من صحة رؤيتها لذاتها ومطابقة تلك الرؤية للواقع، الأمر الذي وضعها أمام تحدٍّ غير متوقع ألا وهو إقناع عملاء الشركة بأن ما تخططه لهم على مستوى البلاد إنما يصب في صالحهم.

من الواضح أنّ الاستبانات التقليدية غير قادرة مطلقاً على تقديم مثل هذه التحليلات الاستراتيجية العميقة. ولكن ماذا عن تكلفة إجراء المقابلات مع عدد كبير من العملاء؟ ألا نحتاج إلى عدد كبير حقاً من المقابلات لكي نكوّن صورة مفيدة وذات معنى حول آراء العملاء؟

الجواب المقتضب عن هذا السؤال هو أنك بحاجة إلى ذلك العدد من المقابلات الذي يكفي للوصول إلى النقطة التي لا تعود تسمع فيها آراء جديدة بل مجرد تكرار للآراء السابقة – أو ما تسمى نقطة الإشباع. وتشير الخبرة العملية إلى أن ذلك الإشباع يحدث بسرعة غير متوقعة.

وسأقدم فيما يلي بعض الأمثلة. لقد طُلب من شركتي إجراء سلسلة من مقابلات العملاء لصالح أحد مستوردي منتجات الهدايا التي تباع في منافذ البيع ومراكز التسوق. قدمنا عرضاً لإجراء 16 مقابلة؛ لكن بعد 12 مقابلة اتضح أننا وصلنا إلى نقطة الإشباع، فالمقابلات الأربعة الباقية لم تؤد سوى إلى تأكيد ما أظهرته المقابلات السابقة. وفي الحال هذه لا يبدو الأمر مضنياً إلى هذا الحد؛ أليس كذلك؟

ومع أنّ العميل الواحد في مثال شركة كوماند قد ذكر عوامل عدة أيضاً، إلا أنه لم يأت أي عميل على ذكر المجموعة الكاملة من العوامل الاستراتيجية دفعة واحدة. فهنا أيضاً احتاج الأمر إلى 12 مقابلة للحصول على تلك المجموعة الكاملة من العوامل – إلى جانب تعريفاتها. وكان بوسعي الاستمرار بإجراء المقابلات والوصول إلى الرقم 25 على سبيل المثال؛ بيد أن خبرتي العملية تفيد بأنني لن أحصل على أي معلومات جوهرية إضافية ومختلفة عما حصلت عليه من خلال المقابلات الـ 12 الأولى.

عندما تسعى الشركات إلى التعرف على آراء وملاحظات العملاء، يظن المدراء التنفيذيون في كثير من الأحيان أن إجراء الاستبانات التي تتضمن أسئلة مع خيارات متعددة للأجوبة هي الحل الأفضل من حيث فعالية التكلفة. لا شك أن لتلك الاستبانات وظائفها وفوائدها، كما هي الحال عندما ترغب في معرفة نسبة الزبائن الذين أعجبوا أو لم يعجبوا بسلعة أو خدمة ما. بيد أن هذه الأدوات تبقى سطحية واستنباطية في أحسن الأحوال ويمكن أن تكون مزعجة وتؤدي إلى نتائج عكسية في أسوأها. فلا تدع الاستبانات تتحول إلى ذريعة تحول بينك وبين التحدث إلى العملاء مباشرة.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .