لماذا تحتاج العلوم إلى التطبيقات الإنسانية؟

4 دقائق
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

“ماذا تخطط أن تفعل بشهادتك؟ ما الفائدة أصلاً من التخصصات الإنسانية؟”. عادة ما تُطرح هذه الأسئلة عن طريق العديد من الأشخاص، حتى يخيّل لي أنه يجب طباعة هذه الأسئلة مع الشهادات عند التخرج. فهذه الاستفسارات ترد على لسان الأصدقاء واستشاريي التوظيف وأفراد العائلة.

ووفقاً لثلاثة كتب جديدة في مجال العلوم الإنسانية، يكون الجواب هو أنّ فائدة التخصصات الإنسانية كبيرة جداً، حيث بدأ الناس من كبرى شركات التقنية في وادي السيليكون وصولاً إلى البنتاغون بإدراك أنه ومن أجل التعامل مع أكبر التحديات الاجتماعية والتقنية اليوم، نحن نحتاج إلى التفكير بشكل نقدي عبر السياق الإنساني لهذه المسائل، وهو ما يتقنه خريجو التخصصات الإنسانية، ولعلّنا نشهد بذلك عودة نجومية مختصي الأفلام والتاريخ والفلسفة.

ويتطرق سكوت هارتلي المستثمر في رأس المال المخاطر في كتابه “فازي وتيتشي” (The Fuzzy and the Techie) إلى “الفصل الخاطئ” بين الإنسانيات وعلوم الحاسوب. كما صرّح بعض القادة في قطاع التكنولوجيا بأنّ دراسة أي علم بخلاف العلوم والتقنية والهندسة والرياضيات يُعد خطوة غير سليمة إذا كنت تبحث عن وظيفة في مجال الاقتصاد الرقمي. وهناك مقولة تتكرر كثيراً قالها فينود كوسلا، المؤسس الشريك في شركة صن ميكروسيستمز: “لا يوجد سوى قدر قليل من تخصصات الفنون المتحررة ذات فائدة للمستقبل”.

لكن يعتقد هارتلي أنّ هذه العقلية مخطئة تماماً. فالمشكلة الأساسية أنها تُشجع الطلبة على التفكير بالتعليم من ناحية “وظيفية”، أي أنهم لا يفكرون بما يتعلمون إلا من ناحية الوظائف التي ستحضّرهم للانخراط بها بعد التخرج. لكن العوائق تتلاشى أمام الحصول على وظائف فنية، والعديد من المهام التي كانت في السابق تتطلب تدريباً متخصصاً. يمكن الآن القيام بها بأدوات بسيطة وعن طريق الإنترنت. على سبيل المثال، يمكن لمبرمج مبتدئ الانطلاق في مشروع ببعض مقاطع برمجية من موقع غيت هاب (GitHub) وقليل من المساعدة عبر موقع ستاك أوفرفلو (Stack Overflow).

ولو أردنا تحضير الطلبة لحل مشاكل إنسانية على قطاع واسع، عندها يرى هارتلي ضرورة التوسع في نطاق تعليمهم واهتماماتهم بدلاً من حصرها. إذ يذكر هارتلي عدداً من كبار القادة الناجحين في قطاع التكنولوجيا ممن يحملون شهادات في العلوم الإنسانية، ومنهم على سبيل المثال لا الحصر هؤلاء الرؤساء التنفيذيون: ستيوارت بترفيلد، من شركة سلاك، درس الفلسفة، وجاك ما، من شركة علي بابا، درس اللغة الإنجليزية، وسوزان وجيتسكي من يوتيوب، ودرست التاريخ والآدب، وبرايان تشيسكي، من شركة إير بي أن بي، ودرس الفنون الجميلة. ولا شك أننا في حاجة إلى الخبراء التقنيين كما يرى هارتلي، ولكننا نريد أيضاً الأشخاص الذين يستطيعون فهم السلوك البشري ومعرفة أنماطه المختلفة.

والمهم في الأمر ليس المهارات التي تمتلكها إنما الطريقة التي تفكر بها. فهل بوسعك طرح الأسئلة المهمة؟ هل تعرف ما طبيعة المشكلة التي تحاول التوصل إلى حلها؟ إذ يتحدث هارتلي عن أهمية وجود تعليم حقيقي في مجال “الفنون المتحررة”، بحيث يكون مشتملاً على العلوم المادية والموضوعات الإنسانية. ويناقش حول تجربة التعلم التي تتمتع بقدر كاف من الشمول، حيث تُتيح للناس النظر في فرص جديدة كما تُساعدهم على تطوير منتجات تلبي الاحتياجات الإنسانية الحقيقية.

إلى جانب ذلك، كانت نقطة السياق الإنساني أيضاً، هي المحور الذي دار حوله كتاب “العملة والحساسية” (Cents and Sensibility) لكاتبيه غاري مورسون أستاذ الإنسانيات ومورتن شابيرو أستاذ علم الاقتصاد، وكلاهما من جامعة نورث ويسترن الأميركية. فهما يجادلان بأنّه حين تُخفق النماذج الاقتصادية، يعود سبب ذلك إلى غياب الفهم للجانب الإنساني. إذ يتجاهل علم الاقتصاد غالباً ثلاثة أمور: أثر الثقافة على اتخاذ القرار، وفائدة القصص والسرد في تفسير أفعال الناس، والاعتبارات الأخلاقية للأنشطة الإنسانية. فالناس لا يعيشون هكذا في فراغ، والتعامل معهم بهذه الطريقة فيه إنكار للواقع وينطوي على ضرر كبير.

في حين يرى كل من مورسون وشابيرو الحل في الأدب، إذ يقترحان أنّ علماء الاقتصاد يجنون الكثير من الحكمة عند قراءة الروايات العظيمة، والتي فيها تحليل عميق للناس يفوق ما قدمه علماء الاجتماع. فعندما يميل علماء الاقتصاد للتعامل مع الناس كأدوات مجردة، فإنّ الروائيين يغوصون بحثاً عن أدق التفاصيل. ولبيان هذه النقطة، يسأل مورسون وشابيرو إذا كان هنالك نموذج علمي قدم صورة عن الإنسان كما فعل تولستوي مثلاً في رواية “آنا كارنينا”؟

وربما تساعدنا الروايات على تشكيل حالة من التعاطف مع الآخر وتفهمه، حيث تجعلنا القصص نطّلع عن كثب على حياة الشخصيات، وتُرغمنا لرؤية العالم كما يراه الناس. إذ يُضيف كل من مورسون وشابيرو أنه ومع تأكيد العديد من التخصصات على أهمية تفهم الآخرين، إلا أنّ الأدب فقط هو الذي يضمن ممارسة ذلك عملياً.

“بوسع الفنون المتحررة في واقع الأمر أن تعلّم العديد من أساليب النظر الدقيقة والتحليل الرصين، عبر أساليب الملاحظة الدقيقة والمقابلات مثلاً، وذلك أمر قد لا يقدره دوماً أولئك الذين يرون أفضلية العلوم على غيرها”.

أما الكتاب الثالث فكان بعنوان “ذو معنى” (Sensemaking)، للاستشاري في مجال الاستراتيجيات، كريستيان مادسبيرغ، والذي يتابع من حيث انتهى مورسون وشابيرو ويعود أيضاً إلى فكرة هارتلي. إذ يناقش بأنّه إذا لم تبذل الشركات ما يكفي من الجهد لفهم الإنسان، ستكون عُرضة لخسارة ارتباطها بالأسواق التي تخدمها، حيث يقول: “إنّ مصادر المعرفة الثقافية العميقة التي تحتاجها الشركات ليست أبحاث السوق المعنية بالأرقام وحسب، بل أيضاً أبحاث تختص بدراسة النصوص في التخصصات الإنسانية، واللغات، والبشر”.

ويتطرق مادسبيرغ إلى سيارة لينكولن الفارهة من إنتاج شركة فورد، والتي كانت في مرتبة متأخرة قبل سنوات مقارنة بسيارات بي إم دبليو (BMW ) ومرسيدس. حتى أنّ الشركة أوشكت على التوقف عن إنتاجها تماماً. لكن المدراء التنفيذيين في الشركة أدركوا أنّ العودة إلى التنافس يعني امتلاك القدرة على بيع السيارات خارج الولايات المتحدة، وخاصة في الصين، المرشحة لتصبح سوق السيارات الفارهة الجديد في العالم. وهكذا بدأت الشركة بتحليل عميق لتجربة العملاء في السيارة، بدل التركيز على عنصر القيادة وحسب. وعلى مدى سنوات عديدة تحدّث الباحثون في لينكولن مع العملاء بشأن تفاصيل حياتهم اليومية وما تعنيه كلمة “رفاهية” بالنسبة لهم. ووجدوا التنقل لدى العديد من الناس في مختلف الدول لا يحتل الأولوية المتوقعة. إذ تغيرت النظرة إلى السيارة، حيث صارت تُعد مساحة اجتماعية أو مكاناً يمكن فيه توفير التسلية للعملاء في مجال العمل. وعلى الرغم من هندستها المتميزة، إلا أنّ سيارة لينكولن كانت تحتاج إلى إعادة تصميم من أجل أن تصبح مناسبة للسياق الإنساني الخاص بالعملاء. كما تبين أنّ الجهود التي بُذلت بعد ذلك في التصميم الجديد آتت أُكلها، فقد ازدادت مبيعات السيارة في الصين في العام 2016 بمقدار ثلاثة أضعاف.

خلاصة القول، والفكرة التي تتفق عليها هذه الكتب الثلاثة، هي أنّ اختيار تخصص الدراسة أقل أهمية من العثور على طريقة لتوسيع آفاق تفكيرنا، وهي فكرة تؤكد عليها بعض الكتب الأخرى الجديدة، مثل كتاب “تعليم تطبيقي” (A Practical Education)، لأستاذ الأعمال راندال ستروس، وكتاب “يمكنك فعل أي شيء” (You Can do Anything) للصحفي جورج أندرز. وهكذا فإنّ على الطلبة الدارسين في مجالات العلوم والتقنية والهندسة والرياضيات الاهتمام بالجانب الإنساني، تماماً كما يفعل الطلبة في تخصص الأدب الإنجليزي مثلاً ومن بينهم أنا، إذ بدأت دراستي الجامعية في تخصص علم الحاسوب. كما يجب علينا أن نكون حريصين بحيث لا ندع التحكم بين الأقسام يحول بيننا وبين ما نعرف تماماً أنه الحقيقة. “فكل شيء يبدو لك مسماراً حين تحمل مطرقة في يدك”. والأمر ذاته يسري على الضرر الذي سنلحقه بأنفسنا والعالم، إذا ألحّينا على توجيه عقولنا للتعامل مع المشاكل كافة بمنهجية واحدة.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .