تجربة بريطانيا في حل مشاكل التوظيف في نظام الخدمة الصحية

6 دقائق
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

على الرغم من أن نظام الخدمة الصحية الوطني البريطاني (NHS) مستمر في تقديم خدمات صحية عالمية فاعلة على مدار حوالي 70 عاماً، إلا أنه يواجه أزمة كبرى في القوة العاملة في المجال الصحي تُهدّد مستقبله. يقدّم نظام الخدمة الصحية الوطني البريطاني حالياً الرعاية الصحية المجانية في مراكز تلقي الخدمة  إلى مواطني الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة، ولا يُشترط إثبات الجنسية في كثير من الأحيان. وينتجُ ما نسبته 1.2% فقط من عائدات نظام الخدمة الصحية الوطني، الذي يموّل بدرجة كبيرة من الإيرادات الواردة من الضرائب العامة ومساهمات الضمان الاجتماعي، من النفقات المباشرة التي يتكبّدها المرضى.

يمرّ نظام الخدمة الصحية الوطني في الوقت الحاضر بصعوبات على الرغم من نجاحه بوصفه النظام الصحي الأول في العالم الذي يعتمد على ممول واحد. (من الآن فصاعداً، عندما نستخدم مصطلح “نظام الخدمة الصحية الوطني” فنحن نشير إلى نظام الخدمة الصحية الوطني البريطاني بشكل خاص، وليس إلى النظم الصحية الموجودة في ويلز واسكتلندا وأيرلندا الشمالية). ارتفعت فترات الانتظار من أجل الحصول على إجراءات نظام الخدمة الصحية الوطني حالياً لتصل إلى مستوى لم تشهده من قبل. ويُتوقّع حالياً من المرضى الانتظار لمدّة 18 أسبوعاً لمجرد الحصول على إحالة إلى أخصائي، كما أنهم ينتظرون عادة مدّة تصل إلى 15 شهراً من أجل إجراء عملية إزالة ماء العين الجراحية (وهي عملية جراحية تستغرق 30 دقيقة)، ولا يُعايَن الكثيرون في “الوقت المناسب” في غرفة الطوارئ (إذ تُماثل فكرة “الوقت المناسب” بالنسبة لنظام الخدمة الصحية الوطني الانتظار لمدة أربع ساعات، ولا يستطيع العديد من المستشفيات تحقيق هذه الغاية).

يتمثّل أحد الأسباب التي أفضت إلى هذه الاستجابة دون المستوى في أن نظام الخدمة الصحية الوطني يكافح بشكل متزايد من أجل توظيف قوته العاملة الصحية واستبقائها. ليصبحوا أطباء في المملكة المتحدة، يقدم الطالب طلباً إلى كلية الطب (بعمر الـ 18 عاماً) بشكل مباشر عقب الحصول على شهادة المدرسة الثانوية في المملكة المتحدة. وبعد ذلك، يتلقّى هؤلاء الطلاب، الذين يشكّلون بعضاً من ألمع العقول في البلاد، تدريباً في كلية الطب لفترة لا تقل عن خمس سنوات. وقبل أن يتخرجوا من كلية الطب، يُقدّم الطلاب طلبات للمشاركة في برامج “الطبيب المبتدئ” في مستشفيات النظام الصحي الوطني، وهي المرادف البريطاني لمصطلح “الطبيب المقيم” في الولايات المتحدة أو طبيب الامتياز في بعض الدول العربية. وإذا قُبلوا، يتلقّى الأطباء حديثي التخرج تدريباً تأسيسياً للمبتدئين لمدة سنتين، ثم يلتحقون ببرامج تدريب متخصصة ليتدربوا إما بصفة “طبيب عام” (وهو ما يدعى أيضاً اختصاراً “GP” أو طبيب الأسرة) أو أخصائي مستشفى، والذي يُطلق عليه أيضاً اسم “مستشار”.

وكمعدل وسطي، يعمل الطبيب المبتدئ لمدّة 72 ساعة أسبوعياً. ومع ذلك، فليس من المستبعد بالنسبة له أن يعمل لمدّة تتجاوز 100 ساعة أسبوعياً. ويعمل المستشارون عادة لمدّة 60 ساعة أسبوعياً، لكن يعمل معظمهم أيضاً ساعات إضافية ليساعدوا على الحد من تراكم المرضى الذين ينتظرون تلقّي العلاج. وفي الواقع، يعمل 59% من موظفي نظام الخدمة الصحية الوطني ساعات إضافية غير مدفوعة الأجر أسبوعياً.

على الرغم من سنوات التدريب وساعات العمل الطويلة، يبلغ متوسط مُرتّب أول تعيين الذي يتقاضاه الطبيب المبتدئ 22,636 جنيه استرليني فقط (وهو أدنى من متوسط الدخل القومي بنسبة 16.7%، وأقل من نصف مُرتّب أول تعيين يتقاضاه سائق قطار الأنفاق). بالإضافة إلى ذلك، تنتقص الدولة قدراً كبيراً من أجورهم لتسدد القروض الطلابية المستوفاة لدفع رسوم كلية الطب والفائدة على هذه القروض (رفعت الحكومة البريطانية مؤخراً معدلات الفائدة لتصبح نسبتها المئوية السنوية 6.1% على جميع اتفاقيات القروض الطلابية القائمة) والتأمين على الأخطاء المهنية ورسوم الامتحانات.

يتقاضى الأطباء العامّون المعتمدون أجوراً أكبر – تبدأ من 55,412 جنيه استرليني وتصل إلى 83,617 جنيه استرليني، أو تتراوح بين 72,200 دولار أميركي تقريباً و109,000 دولار أميركي – لكن مازال هذا المبلغ أقل بكثير مما يتقاضاه نظراؤهم الأميركيون الذين يتقاضون وسطياً 189,000 دولار أميركي. وعلاوة على ذلك، على غرار سائر الأجور في القطاع العام، يبلغ سقف جميع الزيادات في الرواتب في نظام الخدمة الصحية الوطني قانونياً  نسبة وقدرها 1% سنوياً، وهي تقلّ كثيراً عن نسبة التضخم في المملكة المتحدة. و”سقف الأجور العامة” هذا الذي استحدثته الحكومة المحافظة بوصفه سياسة تقشّفية تهدف إلى الحدّ من إنفاق القطاع الحكومي ودعم الرفاه، يساهم بفاعلية في تخفيض المداخيل الحقيقية للأطباء سنوياً.

قد تساعد هذه التوليفة من ساعات العمل الطويلة والأجور المنخفضة في تفسير عُزوف القوى العاملة في مجال الصحة عن نظام الخدمة الصحية الوطني. وفي عام 2015، اختار 48% من الأطباء المبتدئين في عام تدريبهم الثاني الانسحاب من نظام الخدمة الصحية الوطني. وتفوق هذه النسبة معدل الانسحاب المسجل في عام 2011 بـ  19.3%. وفي عام 2017، شهد نظام الخدمة الصحية الوطني أيضاً انسحاب عدد قياسي من الممرضين بحثاً عن ظروف أفضل في أماكن أخرى. المستشارون الذين يحصلون على أجور أعلى حتى يقولون أنهم يرغبون بالانسحاب من نظام الخدمة الصحية الوطني من أجل السعي وراء فرص أفضل في أماكن أخرى. وخلُص استبيان لكبار المستشارين إلى أن 81% منهم خطّطوا للتقاعد مبكراً بسبب ضغوط العمل. وينسحب 1% من الأطباء تقريباً من نظام الخدمة الصحية الوطني شهرياً، وخلال العام الماضي وحده، ارتفعت الوظائف الشاغرة في نظام الخدمة الصحية الوطني بنسبة 10% كما ارتفعت مناصب التدريب التخصصي الشاغرة بنسبة 31%.

يُعدّ هذا الانخفاض في أعداد الموظفين مثيراً للقلق بشكل خاص لأن سكان المملكة المتحدة يتزايدون بمعدل قدره 0.8% وسطياً كل عام (أي حوالي 520,000 شخص) ويتقدّمون في العمر، مما يعني أنه سيكون هناك المزيد من المرضى الذين يحتاجون إلى الرعاية وفترات انتظار أطول حتى.

وحتى يتأقلم مع هذه الأزمة في القوة العاملة في القطاع الصحي، كان نظام الخدمة الصحية الوطني مُرغماً على القيام بأربعة أشياء: الأول، توظيف نسبة كبيرة من أطبائه من خارج البلاد – حالياً، تلقّى ما نسبته 26% من الأطباء في المملكة المتحدة تدريباً في بلدان أجنبية، وهي أعلى نسبة في أي بلد من بلدان الاتحاد الأوروبي؛ الثاني، زيادة سقف التسجيل في كلية الطب من 6,000 طالب إلى 7,000 طالب؛ الثالث، إقرار تدريب إلزامي في نظام الخدمة الصحية الوطني مدّته أربع سنوات لجميع طلاب كلية الطب في المملكة المتحدة؛ والرابع، تعويض نسبة كبيرة من موظفيه بـ “أطباء بدلاء” (أي أطباء مدربين لا يعملون لصالح مستشفى محدّد بعينه، لكنهم يشغلون المناصب الشاغرة بشكل مؤقت).

فشلت هذه الحلول الأربعة في معالجة الأسباب الجذرية لأزمة التوظيف. أولاً، من المرجح أن تصبح القوة العاملة الصحية الحاصلة على تدريب في الخارج أكثر ندرة ما أن تغادر بريطانيا الاتحاد الأوروبي؛ حيث أن عدد المواطنين الأوروبيين المسجلين كممرضين في نظام الرعاية الصحية الوطني على سبيل المثال قد انخفض بنسبة 92% منذ الاستفتاء على مغادرة الاتحاد الأوروبي، المعروف بـ “بريكست”. ثانياً، إن رفع سقف التسجيل في الكليات الطبية بنسبة 25% لن يحل أزمة التوظيف إن استمر 48% من الأطباء المبتدئين بالانسحاب بعد سنتهم الثانية. ثالثاً، فرض أربع سنوات من التدريب الإلزامي هو حل جزئي، إذ إنه لا يحفّز الأطباء المبتدئين على استلام مناصب دائمة في نظام الرعاية الصحية الوطني. رابعاً، ليس الأطباء البدلاء إلّا حلاً مؤقتاً، وهو مكلفٌ للغاية أيضاً.

يُوظّف الأطباء البدلاء عبر وكالات توظيف البدلاء التي تفرض رسوماً إضافية على نظام الرعاية الصحية الوطني. وجدت المجلة الطبية البريطانية (The British Medical Journal) أنه في عام 2015، أنفقت صناديق ائتمان مستشفيات نظام الرعاية الصحية الوطني على رسوم وكالات توظيف الأطباء البدلاء وحدها مبلغاً يفوق ما أنفقته على توظيف الأطباء في مناصب دائمة بمقدار 25 ضعفاً تقريباً؛ إذ يُنفق كل صندوق ائتمان وسطياً مبلغاً قدره 1.4 مليون جنيه استرليني كرسوم لوكالات توظيف الأطباء البدلاء و55,000 جنيهاً استرلينياً فقط على توظيف الأطباء. كما دفعت الصناديق الائتمانية ذاتها أجرة بالساعة أعلى بمقدار ملحوظ لهؤلاء الأطباء البدلاء (قد تصل إلى 250 جنيهاً استرلينياً في الساعة). بالإضافة إلى هذا الاستنزاف الاقتصادي، ثمة مخاوف تتعلق بنوعية الرعاية التي يقدّمها الأطباء البدلاء، باعتبارها تؤثّر على استمرارية العناية.

على الرغم من عدم وجود حلول سريعة لهذه القضايا، فإننا نؤمن أن إحدى الطرق للمضي قدماً تقتضي من الحكومة إلغاء سقف الأجور العامة الذي تبلغ نسبته 1% والسماح بزيادة الرواتب بحيث تحاكي نسبة التضخم (التي تبلغ 3.2% بحسب مؤشر أسعار التجزئة في المملكة المتحدة). توصّل معهد الخدمات المالية (The Institute for Fiscal Services) إلى أن السماح لرواتب نظام الرعاية الصحية الوطني بالارتفاع عند زيادة التضخم سيكلّف مبلغاً إضافياً قدره 1.6 مليار جنيه استرليني في عام 20202021، وهي السنة التي ستنتهي فيها صلاحية سقف الأجور في حال لم يتم تجديده. وبينما قد يبدو ذلك المبلغ كبيراً، فإنه لا يتجاوز 1.26% من ميزانية نظام الرعاية الصحية الوطني المتوقعة لتلك السنة، وسيعود بالفائدة على 1.6 مليون عامل تقريباً. من شأن استبقاء المزيد من مقدمي خدمات الرعاية الصحية هؤلاء أن يقلّل الاعتماد على الأطباء البدلاء، والذي يكلّف نظام الرعاية الصحية الوطني 936 مليون جنيهاً استرلينياً في السنة.

بالإضافة إلى ذلك، يمكن لنظام الرعاية الصحية الوطني أن يتنازل عن جميع القروض الطلابية التي لم تُسدّد إن عمل الطلاب لعدد محدد من السنوات في نظام الرعاية الصحية الوطني. يمكن لهذا الحل أن يُخفّف أزمة القوى العاملة الصحية في نظام الرعاية الصحية الوطني على المدى القصير من خلال زيادة عدد الأطباء المبتدئين الذين يتابعون تدريبهم. كما يمكن أن يكون له فوائد طويلة الأمد أيضاً من خلال معالجته لأحد الأسباب الجذرية لاستنزاف الأطباء المبتدئين. في الوقت الحالي، يُحتجز ما نسبته 9% من راتب الطبيب المبتدئ لسداد الديون المستحقة عليه منذ أيام الدراسة، مما يخفض صافي دخلهم الشهري بشكل ملحوظ. قاد هذا التخفيض في الراتب الفعلي 21,608 أطباء مبتدئين إلى الإضراب عام 2016 والمطالبة بزيادة في الراتب بنسبة 13.5%. ومن شأن التنازل عن القروض الطلابية مقابل العمل في نظام الرعاية الصحية الوطني أن يزيد صافي دخل الأطباء المبتدئين ويخفض معدلات الانسحاب.

يمكن أن يُطبّق نظام سداد القروض هذا بشكل مماثل لطريقة موافقة الحكومة الأميركية على سداد القروض الطلابية الطبية كافة في حال كرّس الأطباء أربع سنوات من الخدمة بعد انتهاء الدراسة في الجيش الأميركي أو البحرية أو القوات الجوية. يفي تقريباً جميع الطلاب الأميركيين الذين يختارون هذا المسار بالتزامهم تجاه الحكومة بغية تجنّب الحصول على قرض طلابي لكلية الطب.

للأسف، ما من حل وحيد للمشاكل المعقدة التي أوجدها السياسيون لنظام الرعاية الصحية الوطني. وينبغي الآن على هؤلاء السياسيين أنفسهم أن يفُوا بواجباتهم الاجتماعية من خلال اتخاذ قرارات حاسمة. وحتى يتمكن نظام الرعاية الصحية الوطني من تصحيح نظامه الحالي غير المستدام، فإن أزمة القوى العاملة الصحية ستصبح أكثر حدة وستزداد أوقات الانتظار أكثر فأكثر وسيواجه المرضى نوعية متدنية من الرعاية وسيزداد تدهور نظام الرعاية الصحية الوطني الذي كان يوماً ما محطّ إعجاب الكثيرين.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .