تعرف على الأسباب النفسية للسلوك غير الأخلاقي

7 دقائق
سيكولوجية السلوك غير الأخلاقي
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

في أمسية دافئة بعد تنفيذ استراتيجية تحدثت عن سيكولوجية السلوك غير الأخلاقي في موقع خارجي، يصل فريق من التنفيذيين إلى مطعم محلي شهير. يتطلع الفريق إلى تناول العشاء معاً، غير أن الرئيس التنفيذي مستاء بشأن الطاولة ويطالب بتغييرها. ويقول “هذه ليست الطاولة التي يحجزها لي مساعدي عادة”. وسرعان ما يستدعي النادل الشاب مدير المطعم الذي يشرح أنه لا توجد طاولات أخرى متاحة.

يحاول الفريق تجاوز الموقف من أجل تقبل سيكولوجية السلوك الغير أخلاقي غير أن الرئيس التنفيذي يقاطعهم مجدداً. ويتساءل مطالبًا بإجابة “هل أنا الوحيد المنزعج بشأن الإطلالة؟ لِمَ توجد أعمال إنشائية اليوم تحديداً؟” يحاول النادل أن يفسر الأمر ولكن بلا طائل. يجيبه الرئيس التنفيذي “أنتم بحاجة إلى الارتقاء بمستوى المطعم”. يخيم التوتر على الأجواء. بعد أن رحل النادل، ألقى أحدهم على مسامع الآخرين طُرفة عن كفاءته. ويبدو أن الغرض منها إرضاء غرور الرئيس التنفيذي الذي رد بتعقيبه الساخر المُزدري للنادل. يضحك الفريق.

اقرأ أيضاً: ست خصال تتكهن بالسلوك الأخلاقي للأشخاص في العمل

لو كنتَ حاضراً العشاء، أكنت تدع الرئيس التنفيذي يعلم باستهجانك لأسلوبه وسلوكه؟ أكنت تحاول أن تضرب مثالاً أفضل؟ أم كنت ستركن إلى السكوت؟

إن هذا المشهد يتضمن ثلاث ديناميات سيكولوجية تُفضي إلى تجاوز الخطوط الأخلاقية. أولاً، لدينا القدرة الكليَّة: وتتجلى عندما يشعر شخص ما بالكبر والاستحقاق الشديدين، حتى أنه يعتقد أن قواعد السلوك اللائق لا تسري عليه. ثانياً، لدينا فقدان الحس الثقافي: ويتجلى عندما يُجاريك الآخرون ويشرعون تدريجياً في قبول المعايير الشاذة ويجسدونها. وأخيراً، لدينا الإغفال المُبرر: ويظهر عندما لا يُفصح الأفراد عن التجاوزات الأخلاقية، لأنهم يفكرون في مكافآت أسرع كالبقاء على قدم المساواة مع الأقوياء.

والديناميات نفسها تُعْمِل أثرها عندما يتم تجاوز خطوط أكبر في الميدان المؤسسيّ: مزاعم الفساد في شركة “نيسان”، واتهامات التحرش الجنسي في قطاع الإعلام، وانتهاكات الخصوصية في شركة “فيسبوك”، وغسيل الأموال في القطاع المالي، ودور شركات المستحضرات الدوائية في أزمة تعاطي الأفيون.

وفي حين أنه من الصعب، إن لم يكن من المستحيل، أن نجد دليلاً على أن القادة عموماً أمسوا أقل تمسكاً بالمعايير الأخلاقية بمرور السنين، فإن لدينا بعض الدلائل التي تدق ناقوس الخطر. يقول وارن بافيت، شارحاً ممارسات شركة “بيركشاير هاثاواي” في الخطاب السنوي المُرسل إلى أصحاب المصلحة، إنه ونائب رئيس مجلس الإدارة تشارلي مونغر شهدا:

“… ألوان السلوك المؤسسي الفاسد كلها، على مستوى الحسابات والعمليات، والنابع من رغبة الإدارة في الوفاء بتوقعات سوق الأوراق المالية وآماله في نيويورك. وما يبدأ بدايةً بريئةً لتفادي تخييب آمال “بورصة نيويورك” – كتضخيم المبيعات في نهاية ربع العام، أو تجاهل الخسائر التأمينية المتصاعدة، أو ترحيل احتياطي سنوات الرخاء لسد عجز السنوات العجاف – من الممكن أن يصبح الخطوة الأولى نحو ممارسات الاحتيال متكاملة الأركان”.

إن ملاحظة بافيت مهمة؛ لأنها تتعلق بالسواد الأعظم منَّا بحق. وأعني أنهم ليسوا قديسين ولا مجرمين، وإنما هم قادة لهم نوايا حسنة تنحرف بهم أحياناً بوصلتهم الأخلاقية؛ إذ ينطلقون بسرعة في مشهد حافل بالفخاخ والعثرات. بالنسبة لهذه الأغلبية، ليست القيادة الأخلاقية مسألة تختص بالتصرف بحسن نية أو بسوء نية. وإنما تتعلق بالإبحار في المنطقة الشاسعة الفاصلة بينهما.

نصائح لمواجهة ديناميات سيكولوجية السلوك غير الأخلاقي

كيف تعرف إذاً متى سلكت أنت أو فريق عملك الدرب المؤدي إلى هفوة أخلاقية؟ إليك عزيزي القارئ المزيد من المعلومات عن تمييز القدرة الكليَّة وفقدان الحس الثقافي والتغافل المُبرر لديك ولدى فريقك، وقليل من النصائح التي تُعينك على التصدي لكل دينامية على حدة: 

القدرة الكلية:

يمكن اقتفاء أثر كثير من الهفوات الأخلاقية وصولاً إلى الشعور بأنك لا تُقهر، ولا مساس بك، وتتمتع بسلطة فائقة، الأمر الذي يمكن أن يخلق داخلك إحساساً بالنشوة والخيلاء ويحفزه. وبالنسبة للقائد صاحب القدرة الكلية، تسري القواعد والمعايير على الآخرين جميعاً، ولا تسري عليه. ويبدو تجاوز الخط الأحمر أبعد ما يكون عن اعتباره انتهاكاً بالنسبة له، وأقرب ما يكون حقاً مكتسباً. ويشعر أمثاله بأن لهم الحق في تجاوز الخطوط الحمراء، أو إعادة رسمها. في مثال حفل العشاء أعلاه، ليس من قبيل المصادفة أن يأتي تصرف الرئيس التنفيذي المتعالي، الذي يعتبر سلوكه حقاً مكتسباً له، بعد يوم واحد من وضعه لاستراتيجية الخطوات الكبرى التالية والتخطيط لها.

اقرأ أيضاً: بناء مسيرة مهنية أخلاقية

إن القدرة الكلية ليست كلها مفسدة. فأحياناً ما تكون الدَفْعَة الناجمة عن تصرف جريء هي ما يقتضي الأمر لتحقيق طفرات أو تقدم حقيقي ملموس. ولكن، كلما ارتقيت السلّم، أمسى رقيك مسؤولية وعبأً. ويسري ذلك تحديداً إذا قَلّ من حولكَ عدد الأشخاص المستعدين على ربطك بالواقع، والقادرين عليه. إذا لم يقُل لك أحد “لا”، فاعلم أنك تعاني مشكلة. من بين سبل قياس ما إذا كنت بلغت “ذروة القدرة الكلية” أن تُقابَل قراراتك فقط بالتهليل والإجلال والصمت.

يتمثل الثقل النفسي الموازن للقدرة الكلية في تحمل مسؤولية عيوبك. وهي القدرة الناضجة على النظر في المرآة وإدراك أنك لست فوق الجميع. إذا كنت تشغل منصباً قيادياً تحديداً، افترض أن لديك نقاط ضعف وفكر فيها بانتظام.

أحياناً ستحتاج إلى مساعدة الآخرين في هذا الصدد. إن أفضل المدراء التنفيذيين الذين مروا عليّ لديهم زملاء أو أصدقاء أو مدربين أو مشرفين يجرؤون على توضيح حقيقة أدائهم وحكمهم على الأشياء لهم. ينبغي عليك تشكيل مجموعة مثيلة من الأنداد الثقات، الذين يطلعونك على حقيقة الأمور حتى لو كانت مريرة. إضافة إلى ذلك، احرص على تشجيع “الالتزام تجاه الاختلاف” بين فريقك الأساسي.

فقدان الحس الثقافي:

مهما كنتَ منضبطاً، لا بد أن تُقر أن اتجاهات بوصلتك الأخلاقية، بمرور الوقت، ستتحول نحو ثقافة مؤسستك أو فريقك.

من واقع عملي مع الشرطة والوحدات العسكرية التي تتسلل داخل الجماعات الإجرامية، رأيت أمثلة تُثبت كيف أن فقدان الحس الثقافي يدفع القادة إلى تجاوز الخطوط الحمراء. وعادة ما يبدأ هذا التجاوز بشكل خفي. وذلك حين يتعين على الضباط التعرف على ثقافة جديدة والتسلل إليها. وهم بحاجة إلى الانسجام مع تلك الثقافة عبر التحدث بلغتها، والتصرف وقفاً لمعاييرها، وارتداء ألبسة تتماشى معها. لكنهم بذلك يجازفون بالتمادي أكثر من اللازم، لأنهم يحاكون ثقافة أفراد العصابة الذين خرجوا بدايةً لإيقافهم، ويتورطون في المنظومة القيمية للجماعة.

ويسري هذا النوع من “الاستقطاب الأخلاقي” ذاته على الشركات، لا بين ليلة وضحاها وإنما تدريجياً. من وجهة النظر النفسية، إنك تواجه مفاضلة بين الانسجام مع الثقافة السائدة والإخلاص لما تقيم له وزناً وتقدره.

في البداية، يمكن أن يتخذ فقدان الحس الثقافي شكل المسافة الساخرة أو الاستسلام المخيب للآمال، متى كان هناك تفاوت بين الاثنين، أو بين المُثُل التي تتبناها شركتك وما تراه واضحاً ويُجازى عليه الناس. لكن العقل بحاجة إلى عزيمة وإصرار. لذا، بمرور الوقت، فإنك تكف عن ملاحظة متى أمست الألفاظ البذيئة عُرفاً سائداً، أو تبدأ في التصرف بطرق ما كنت تتوقع قط أن تكون جزءاً من مرجع ممارساتك.

إن فقدان الحس الثقافي هو الجانب الذي شهدت فيه أسوأ حالات الفساد في القيادة الأخلاقية؛ لأنه من الصعب جداً رصده واكتشافه. والقادة الذين تجاوزوا الخط الأحمر لا يصفون تصرفهم هذا بأنه كان خياراً واضحاً على ذاك الدرب، وإنما يصفونه بالخوض في درب موحل لم يعودوا يميزون فيه بين الصواب والخطأ. وهم يصفون عملية فقدوا فيها الإحساس بلغة الآخرين وسلوكهم، وبعدها فقدوا الإحساس بلغتهم وسلوكهم هم أنفسهم، وفقدوا إحساسهم بالموضوعية. ببساطة، إن أجراس الخطر لديهم توقفت عن الدق.

اقرأ أيضاً: هل يجعلك القيام بالعمل نفسه مراراً وتكراراً أقل مراعاة للأخلاقيات؟

 ابدأ بالبحث عن علامات الاستقطاب الأخلاقي:

وأعني تلك اللحظات العابرة التي لا تتعرف فيها على نفسك، وأي مؤشرات أخرى تدل على أنك تُعرِّض فاعليتك الشخصية للمعايير المنحرفة للجموع. ثمة اختبار آخر منتظم للشجاعة، يمكنك توظيفه، وينطوي على سؤال نفسك عما إذا كنت تشعر بالارتياح تجاه الإفصاح لصحفي أو قاض عما يجري.

وفي الوقت نفسه، لا يمكنك أن تثق بنفسك دوماً في هذه المواقف. وكما ذكرنا في حالة القدرة الكلية، من المفيد أن تلتمس منظور شخص غريب عنك، فتلجأ إلى صديق ثقة أو فرد من أفراد العائلة ربما كان قادراً على رصد التغيرات الطارئة عليك، والتي لا تستطيع أنت أن تراها. ولا تنسَ أيضاً أن تعزل نفسك بشكل منتظم عن مؤسستك لتقارن ثقافتها وتوازن بينها وبين ثقافات مؤسسات أخرى، وذكِّر نفسك أن الأمور لا تجري في باقي أنحاء العالم على النحو نفسه.

الإغفال المبرر وتأثيره على سيكولوجية السلوك غير الأخلاقي:

إن العقل البشري بارع في تبرير الانحرافات الطفيفة متى كانت هناك جائزة ملموسة على المحك، ومتى كانت خطورة انكشاف أمر المرء محدودة.

على خط إنتاج إحدى شركات المستحضرات الدوائية مثلاً، نسيت مُساعِدَة بالمختبر، كانت على عجلة من أمرها، أن تزيل تبرجها بالكامل. فسقطت ذرة من مستحضر تجميل الرموش بمحض الصدفة في تشغيلة دواء ضخمة بما يكفي لتلبية احتياجات دولة متوسطة الحجم لعام كامل. للحظة وجيزة، خلَّفَت الشائبة الدقيقة أثراً رفيعاً يميل إلى اللون الأصفر، لكن الأثر تلاشى وصار من المستحيل الكشف عنه. وهذا الدواء من صنف الأدوية المُنقذة للأرواح ذات القيمة العالية جداً، وصار يحوي مسحة من التبرج فقط ربما كانت حميدة.

هل تبادر بالإبلاغ عن هذه الواقعة؟ إذا كنت مديراً وسألك أحدهم سراً ما العمل، أكنت تأمر بإتلاف التشغيلة كلها؟  أكنت تغير رأيك وأنت تعلم أن المرضى ربما يعانون أو حتى يلقون حتفهم بسبب التأخر الجسيم في الإنتاج؟ وهل ستضع في اعتبارك ميزانية الإنتاج المتضخمة والموقف المالي الهش لشركتك وأنت تتخذ قرارك؟ هل سترفع المشكلة إلى رؤسائك موقناً بأن الذين لديهم مصلحة أكبر في المحصلة النهائية قد يُغمضون عن الواقعة؟

لقد خُيّر الكثير من القادة ما بين نيل الجائزة وفعل الصواب. ويبدأ المنحدر الزلق فور أن تشرع في تبرير أفعالك، وتحدث نفسك والآخرين بأن “هذا موقف استثنائي” أو أن “علينا التحايل على القواعد بعض الشيء لإنجاز المهام هنا”، أو “نحن هنا لكسب المال لا لمزاولة أعمال خيرية”.

إن هذه الزلات الأولى تتعاقب وتتحول إلى زلات أكبر، تتحول بدورها إلى عادات توقن بأنها مضرة بك، لكنك تبدأ في الشعور أنها مُبرَّرة، بل وحتى مقبولة، إذا ما نظرنا إلى الظروف المحيطة، وفي نهاية المطاف تمسي جزءاً من نسيجك الأخلاقي. ومن الصعب تحديد متى بالضبط يتم تجاوز الخط الأحمر، لكن تصحيح المسار في بداية المنحدر الزلق أسهل بكثير من تصحيحه بينما تزل قدماك بأسرع ما يمكن بعيداً عن الصواب.

تذكر أن السلطة تتآكل أكثر مما تفسد، وذلك غالباً نتيجة التبريرات البارعة للإهمال الأخلاقي. يمكنك محاربة هذه الدينامية النفسية بواسطة وضع عقود رسمة واجتماعية تُلزمك وزملاءك بفعل الصواب، ومكافأة ذوي السلوك الأخلاقي، ورسم حدودك ومشاركتها. والبند الأخير يمكن أن يكون بسيطاً بساطة وضع قائمة بالأفعال التي لن تُقدم عليها لأجل التربح أو المتعة، على أن تضعها في مكان مناسب حتى تتسنى لك قراءتها بانتظام، وتعرضها بين الحين والآخر على فريقك على سبيل التَذْكِرَة.

الحقيقة أنه لا يوجد صراط مستقيم حقيقي يُتّبع بالنسبة لكثير من القادة. أنت الذي يشق الطريق بينما تمضي. ولذلك، تعتمد القيادة الأخلاقية كثيراً على حكمك الشخصي على الأمور. ولهذا السبب، قد يخالجك شعور بأن المعضلات الخُلُقية أو الأخلاقية التي تعيشها شخصية أو من المحرمات، وأنها صراعات لا تريد لأقرانك أن يعلموا عنها شيئاً. ويمكن أن تشعر أحياناً بالخزي من الاعتراف بشعورك بالحيرة والشك فيما يتعلق بكيفية المضي قدماً. ولكن، عليك أن تدرك أن هذا جزء من الحياة العملية، وأنه ينبغي التعاطي معه بطريقة مباشرة وصريحة.

اقرأ أيضاً: دراسة حالة: هل كان ذلك تصرفاً غير أخلاقي؟

وعلى الرغم من أن غالبية الشركات لديها ضوابط وتوازنات ثقافية وهيكلية، بما في ذلك بيانات للقيم ومبادئ توجيهية للمسؤولية الاجتماعية، بل حتى مناصب للكاشفين عن الفساد، فإنه يتعين على القادة أيضاً أن ينتبهوا للظروف النفسية وأن يهتموا بموضوع سيكولوجية السلوك غير الأخلاقي التي تدفع الناس – بما في ذلك أنفسهم – إلى تجاوز الحدود الأخلاقية. إن استيعاب مخاطر القدرة الكلية وفقدان الحس الثقافي والتغافل المُبرر أشبه بتركيب أولى اللافتات التحذيرية القليلة على طريق مشوارك المهني المديد. ستواجه بعض العثرات لا محالة، ولكن كلما كنت متأهباً للتعامل معها، كلما أصبح من الأرجح أن تحافظ على نزاهتك بلا مساس.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .