لا تقسُ على نفسك: قوّة التعاطف مع الذات

10 دقائق
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio
عندما يواجه الناس نكسة في مكان العمل، سواء تمثّل الأمر في مبيعات سيئة خلال أحد الأرباع المالية، أو عدم الحصول على الترقية المستحقة، أو الدخول في نزاع مع أحد الزملاء، فإنه من الشائع أن يتجاوبوا بطريقة من اثنتين: فإمّا أن يتّخذوا موقفاً دفاعياً وينحوا باللائمة على الآخرين، أو يقلّلون من شأن أنفسهم. المؤسف في الأمر هو أنّ أيّاً من ردّي الفعل هذين لا يعتبر مفيداً. فتحاشي تحمّل المسؤولية من خلال اللجوء إلى الدفاع قد يخفّف من وقع الوخزة التي يتسبّب بها الفشل، لكنّ ذلك يأتي على حساب التعلّم. أمّا جلد الذات، من جهة أخرى، فقد يبدو أمراً مرغوباً في تلك اللحظة، لكنّه يمكن أن يقود إلى تقويم سلبي وغير دقيق للقدرات الذاتية الأمر الذي يقوّض التطوّر الشخصي.

ولكن ماذا لو أنّنا عوضاً عن ذلك تعاملنا مع أنفسنا تماماً كما لو كنّا سنتعامل مع صديق في وضع مشابه؟ على الأرجح أن نكون لطفاء ومتفّهمين ومشجّعين. إنّ توجيه هذا النوع من الاستجابة نحو الداخل، أي باتجاه أنفسنا، يُعرف باسم “التعاطف مع الذات”، وهو مفهوم حظي بالكثير من التركيز في عالم الأبحاث في السنوات القليلة الماضية. وقد اكتشف علماء النفس بأنّ التعاطف مع الذات هو أداة مفيدة لتعزيز الأداء في مجموعة متنوّعة من السياقات، سواء المحافظة على الصحّة بعد التقدّم في العمر أو في مجال الرياضة. وقد بدأت أنا ومجموعة أخرى من الباحثين في التركيز على الكيفية التي يعزّز بها التعاطف مع الذات النمو المهني للشخص.

بالنسبة لغير الأكاديميين، مفهوم التعاطف مع الذات هو مفهوم أقل ألفة من مفهومي تقدير الذات أو الثقة بالنفس. صحيح أنّ الناس الذين يمارسون التعاطف مع الذات يميلون إلى امتلاك تقدير أعلى للذات، إلا أنّ ثمّة تمايزاً بين المفهومين. فتقدير الذات ينطوي على تقويم النفس بالمقارنة مع الآخرين. أمّا التعاطف مع الذات، من جهة أخرى، فلا يشمل إطلاق الأحكام على النفس أو على الآخرين. بل هو يخلق إحساساً بقيمة الذات لأنّه يقود الناس إلى الاهتمام بصدق بسلامتهم والتعافي من النكسة التي تعرّضوا لها.

يُبدي الناس الذين يتمتّعون بمستويات عالية من التعاطف مع الذات ثلاثة سلوكيات: أولاً، هم لطفاء ولا يطلقون الأحكام بخصوص حالات فشلهم وأخطائهم؛ وثانياً، هم يدركون بأنّ الأخطاء هي تجربة إنسانية مشتركة؛ وثالثاً، هم يتبنّون مقاربة متوازنة في التعامل مع العواطف السلبية عندما يتعثّرون أو يقصّرون – ويسمحون لأنفسهم بالشعور بإحساس سيء، لكنّهم لا يسمحون للعواطف السلبية بأن تسيطر عليهم.

وضعت كريستين نيف، الأستاذة في جامعة تكساس في أوستن، أداة بحثية مسحية تهدف إلى تقويم المكوّنات الثلاثة للتعاطف مع الذات. وقد استعمل الباحثون والممارسون هذه الأداة لتسليط الضوء على الصفات والسلوكيات الشخصية المقترنة بالتعاطف مع الذات وتوصّلوا إلى جملة استنتاجات من بينها أنّ الناس الذين يحصلون على علامة عالية في هذا الاختبار يمتلكون عادة دافعاً أكبر لتحسين أنفسهم وهم أكثر ميلاً إلى التعبير عن أحاسيس قوية بالصدق مع الذات، وكلاهما عاملان أساسيان يسهمان في نجاح الإنسان في مساره المهني. لكنّ البشرى السارّة تكمن في أنّ كلتا الصفتين يمكن تحسينهما وصقلهما من خلال التعاطف مع الذات.

ذهنية النمو

ترغب معظم المؤسسات كما يرغب معظم الناس بالتحسّن والتعاطف مع الذات هو أمر حاسم لتحقيق ذلك. ونحن نميل إلى الربط بين النمو الشخصي والعزيمة والصبر والعمل الجاد، لكنّ العملية تبدأ غالباً بالتأمّل، وأحد الاشتراطات الأساسية لتحسين الذات هو امتلاك تقويم واقعي لوضعنا الحالي، أي تحديد نقاط قوتنا والقيود التي تكبّلنا. فإقناعنا لأنفسنا بأننا أفضل ممّا نحن عليه يقود إلى التراخي، أمّا التفكير بأننا أسوأ فيقود إلى الروح الانهزامية. وعندما يتعامل الناس مع أنفسهم بتعاطف، فإنهم سيكونون أقدر على الوصول إلى تقويمات واقعية لذواتهم، وهذا أساس التحسين. كما أنّهم يمتلكون دافعاً أكبر للعمل على نقاط ضعفهم عوضاً عن التشكيك في جدوى ذلك، ولاستدعاء الشغف والحماس المطلوبين لتعزيز المهارات وتغيير العادات السيئة.

أظهرت أنا وزميلتاي جوليانا براينز (في جامعة رود آيلاند) وجيا واي جان (في جامعة ممفيس) ذلك في سلسلة من الدراسات التي حثينا فيها المشاركين إمّا على التعامل مع أنفسهم بتعاطف مع الذات أو بأسلوب يعزّز تقدير الذات. ثم أجرينا تقويماً لرغبتهم في تحسين ذاتهم. في إحدى الدراسات، طلبنا من المشاركين تذكّر وقت فعلوا فيه شيئاً ما شعروا بأنّه كان خاطئاً وانتابهم نتيجة لذلك إحساس بالذنب، والأسف، والندم. وقد شملت غالبية هذه الأخطاء التي ارتكبها المشاركون أشياء من قبيل عدم الإخلاص للشريك، أو سوء السلوك الأكاديمي، أو عدم الصدق، أو خيانة الثقة، أو إيذاء شخص يهمّهم أمره. ثم وزّعناهم عشوائياً على ثلاث حالات: التعاطف على الذات، أو تقدير الذات، أو مجموعة الضبط. وقد طلبنا من المشاركين في مجموعة التعاطف مع الذات كتابة فقرة يوجّهونها إلى أنفسهم يعبّرون فيها عن اللطف والتفهّم للخطأ المرتكب. أمّا المشاركون في مجموعة تقدير الذات فقد طلبنا منهم كتابة فقرة يصفون فيها خصالهم الإيجابية. وطلبنا من المشاركين في مجموعة الضبط أن يكتبوا عن هواية يستمتّعون بها. بعد ذلك ملء جميع المشاركين استبياناً يهدف إلى تقويم رغبتهم في إصلاح الأمر والتزامهم بعدم تكرار الخطأ مستقبلاً. وقد وجدنا بأنّ الأشخاص الذين شُجّعناهم على معاملة أنفسهم بتعاطف شعروا بدافع أكبر لإصلاح الأمر وعدم تكرار الخطأ أبداً مقارنة بالمشاركين الذين شجّعناهم على التجاوب مع الخطأ بطريقة تعزّز تقدير الذات وأفراد مجموعة الضبط. وفي بحث آخر وجدنا بأنّ التعاطف على الذات زاد من تصميم الناس الذين قالوا بأنهم كانوا مسؤولين عن حالة انفصال عن شريك في علاقة عاطفية على أن يكونوا شركاء أفضل في العلاقات المستقبلية، مقارنة مع المشاركين في المجموعتين الأخريين.

إنّ التعاطف مع الذات له دور أكبر بكثير من مجرّد مساعدة الناس على التعافي من حالات الفشل أو النكسات. فهو يدعم ما اسمته كارول دويك، أستاذة علم النفس في جامعة ستانفورد، “ذهنية النمو”. وكانت دويك قد وثّقت فوائد تبنّي ذهنية “النمو” عوضاً عن تبنّي ذهنية “الجمود” في الأداء، سواء تعلّق الأمر بإطلاق شركة ناشئة ناجحة، أو ممارسة الأبوّة، أو إدارة ماراتون رياضي. فالناس الذين يتبنّون ذهنية جامدة يرون بأنّ الصفات والقدرات الشخصية، بما في ذلك صفاتهم وقدراتهم الشخصية هم، وكأنّها قدّت من حجر، أي أنها لا تتغيّر. وهم يؤمنون بأنّنا سنكون بعد خمس سنوات في الحالة ذاتها التي نحن عليها اليوم. أمّا الناس الذين يتبنّون ذهنية النمو، في المقابل، فينظرون إلى صفاتهم وقدراتهم الشخصية بوصفها مرنة. وهم يرون إمكانية النمو، وبالتالي فإنهم أكثر ميلاً إلى محاولة إدخال التحسين وبذل الجهد والتحلّي بالصبر والمحافظة على النظرة الإيجابية والمتفائلة.

تشير أبحاثي إلى أنّ التعاطف مع الذات يدفع الناس إلى تبنّي ذهنية النمو. وفي إحدى الدراسات التي أجريتها مع جوليانا براينز، طلبنا من المشاركين تحديد ما يعتبرونه أكبر نقاط ضعفهم – ومعظمها شمل مصاعب اجتماعية مثل غياب الثقة، والقلق، والخجل، والشعور بعدم الأمان في العلاقات -ثم وزّعناهم- عشوائياً على من ثلاث مجموعات. طلبنا من المشاركين في مجموعة التعاطف مع الذات كتابة رد على الطلب التالي: “تخيّل بأنّك تحدّث نفسك عن نقطة الضعف هذه من منظور عطوف ومتفهّم. ماذا ستقول؟” أما المشاركين في مجموعة تقدير الذات فقد طلبنا منهم كتابة رد على الطلب التالي: “تخيّل بأنّك تحدّث نفسك عن نقطة الضعف هذه من منظور التأكيد على صفاتك الإيجابية (عوضاً عن صفاتك السلبية).” أمّا المجموعة الأخيرة فقد طلبنا منها كتابة أي شيء.

بعد ذلك طلبنا من المشاركين ملء مجموعة استمارات تقويمية تهدف إلى قياس مدى شعورهم بالسعادة أو الحزن أو الانزعاج ومن ثمّ طلبنا منهم قضاء خمس دقائق ليصفوا فيها ما إذا كانوا قد فعلوا أيّ شيء سابقاً لتغيير نقطة ضعفهم ومن أين تأتي نقطة الضعف هذه برأيهم. وقد استعنّا بأشخاص مستقلّين لترميز إجابات المشاركين بناءً على مدى تعبيرهم عن ذهنية النمو أو ذهنية الجمود (“هذا أمر فطري يأتي مع الولادة – وليس بوسعي فعل أي شيء حياله” في مقابل “من خلال العمل الجاد أعرف أنني أستطيع أن أتغيّر”). المشاركون في مجموعة التعاطف مع الذات عبّروا عن قدر أكبر بكثير من الأفكار المرتبطة بذهنية النمو بالمقارنة مع المشاركين في المجموعتين الأخريين.

ولكن ماذا عن السلوك الفعلي؟ كيف نعلم بأن التعاطف مع الذات – وذهنية النمو الناجمة عنه – سيقود الناس إلى العمل بجد أكبر لتغيير أنفسهم؟ وفقاً للأدبيات العلمية المتعلقة بذهنيتي الجمود والنمو، فإنّ واحدة من الإشارات الملفتة على أنّ الشخص يتبنّى ذهنية النمو هي استعداده للاستمرار في محاولة تقديم أداء أفضل بعد تلقّيه رأياً تقويميّاً سلبيّاً. ففي نهاية المطاف، إذا كنت تؤمن بأنّ قدراتك ثابتة وجامدة، فلن يكون هناك نفع من بذل الجهد. ولكنّك إذا نظرت إلى القدرات على أنها شيء قابل للتغيّر، فإنّ الحصول على آراء تقويمية سلبية لن يشكّل لك رادعاً عن محاولة تحسين نفسك.

اختبرنا هذا المنطق في دراسة كان كل المشاركين فيها من طلاب إحدى الجامعات المرموقة. طلبنا منهم بداية الخضوع لامتحان صعب جدّاً لاختبار معرفتهم بالمفردات اللغوية وتلقوا آراء تقويمية سلبية بخصوص أدائهم السيء. ثمّ وزّعنا المشاركين عشوائياً على مجموعتين. في المجموعة الأولى (حالة التعاطف مع الذات)، قال الفاحص للمشارك: “إذا كنت قد واجهت صعوبة في الاختبار الذي خضعت له للتو، فأنت لست وحدك. إذ من الشائع أن يواجه الطلاب صعوبة في هذا النوع من الاختبارات. فإذا انتابك شعور سيء بسبب أدائك، حاول ألا تقس على نفسك كثيراً.” أمّا في حالة المجموعة الثانية، فإنّ الفاحص عوضاً عمّا سبق قال: “إذا كنت قد واجهت صعوبة في الاختبار الذي خضعت له للتو، حاول ألا تشعر بشعور سيء تجاه نفسك – فقبولك في هذه الجامعة هو دليل على ذكائك”.

في وقت لاحق، طلبنا من جميع المشاركين الخضوع لاختبار آخر للمفردات. وقد مُنحوا الفرصة لدراسة قائمة من الكلمات والتعريفات وقيل لهم بأنهم قادرون على مراجعة الكلمات حسبما يشاؤون قبل الاختبار. وقد وجدنا بأنّ المشاركين الذين حثّهم الفاحص على التعامل مع فشلهم الأولي بشيء من التعاطف كانوا أكثر ميلاً إلى تبنّي ذهنية النمو تجاه قدراتهم في مجال المفردات وخصّصوا وقتاً أطول للدراسة بالمقارنة مع نظرائهم في مجموعة تقدير الذات. ويبدو أنّ التعاطف مع الذات قد مهّد الطريق لتحسين الذات من خلال تحفيز رغبتهم على تقديم أداء أفضل، وتشجيعهم على الإيمان بأنّ التحسين ممكن، وحثّهم على بذل جهد أكبر.

الصدق مع النفس

ينطوي التعاطف مع الذات على فوائد في مكان العمل تتجاوز مجرّد تعزيز الدافعية لدى الموظفين للتحسين. فمع مرور الوقت، يمكن أن يساعد الناس في الانجذاب نحو الأدوار والمناصب الأقرب إلى شخصياتهم وقيمهم. كما أنّ عيش الإنسان بما يتوافق مع ذاته الحقيقية، وهي حالة يطلق عليها علماء النفس اسم “الصدق مع النفس”، يزيد من الدافعية والحافز لديه (إضافة إلى مجموعة أخرى متنوعة من الفوائد التي تطال الصحة النفسية للشخص). ولكن للأسف يظل مفهوم الصدق مع النفس شيئاً غير واضح المعالم بالنسبة للكثيرين في مكان العمل. فقد يشعر الناس بأنهم عالقون في وظائف يجدون أنفسهم مضطرين فيها إلى قمع ذواتهم الحقيقية بسبب عدم الاتساق في المعايير المتعلقة بالسلوك في مكان العمل، أو الشكوك المحيطة بما يمكنهم الإسهام به، أو المخاوف التي تنتابهم من أن ينظر إليهم زملاؤهم ورؤساؤهم نظرة سلبية. لكنّ التعاطف على الذات يمكن أن يساعد الناس في تقويم مساراتهم المهنية والشخصية وإدخال التصويبات على المسار حيثما وعندما تقتضي الضرورة. فمندوب المبيعات العطوف على ذاته والذي قد يخفق في تحقيق مستهدف المبيعات خلال الربع المالي الحالي، على سبيل المثال، لن يركّز فقط على كيفية تحقيق الأرقام المطلوبة في الربع المالي التالي، وإنما سيكون أكثر ميلاً إلى تقويم الأوضاع لتحديد ما إذا كان يشغل الوظيفة الصائبة التي تناسب مزاجه وتوجّهاته واستعداده.

في بحث جرى مؤخراً بقيادة جيا واي جان، اكتشفنا بأنّ التعاطف على الذات يعزّز الصدق مع النفس من خلال التقليل من الأفكار السلبية والتشكيك بالنفس إلى الحد الأدنى. وفي دراسة مبدئية، ملأ المشاركون استمارة بحثية قصيرة على أساس يومي لمدّة أسبوع. وقد طلب منهم تحديد مستويات تعاطفهم على ذواتهم (“اليوم، أبديت شعوراً بالاهتمام والتفهم واللطف تجاه نفسي”) وصدقهم مع أنفسهم (“اليوم، شعرت بأنني صادق وحقيقي في تفاعلاتي مع الآخرين”) كل يوم. وقد وجدنا بأنّ التفاوتات اليومية في مستويات التعاطف على النفس كانت مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالتفاوتات في الشعور بالصدق مع النفس. ففي الأيام التي قال فيها المشاركون بأنهم كانوا أكثر تعاطفاً على أنفسهم مقارنة مع المستوى العام، أفادوا أيضاً عن شعور أكبر بالصدق مع النفس.

وقد تعزّزت هذه النتائج التي تشير إلى وجود ترابط ببراهين تجريبية توصّلنا إليها في تجربة أخرى طلبنا فيها من المشاركين (الموزّعين عشوائياً) الاستجابة لنقطة ضعف شخصية من منظور عطوف، أو منظور يقوم على تعزيز تقدير الذات، أو منظور لا يمتّ بصلة لأي من هذين الاثنين. وبعد ذلك مباشرة، طلبنا منهم ملء استمارات مخصّصة لقياس مدى شعورهم بالصدق مع النفس. وقد عبّر المشاركون الذين طلب منهم التعاطف مع ذواتهم فيما يخصّ نقاط ضعفهم عن شعور أكبر بالصدق مقارنة بالمشاركين في المجموعتين الأخريين.

فما الذي كان يحصل؟ إن معاملتك لنفسك بلطف وتفهّم ودون إطلاق أحكام تخفّف من مخاوفك من الرفض الاجتماعي، ممّا يمهّد الطريق للصدق مع النفس. ويبدو أنّ للتفاؤل دوراً يؤدّيه هنا. فامتلاك نظرة إيجابية تجاه الحياة يجعل الناس أكثر ميلاً إلى التجريب – مثل الكشف عن مكنونات أنفسهم الحقيقية. في واقع الأمر، تُظهرُ الأبحاث بأنّ الناس المتفائلين أكثر ميلاً إلى الكشف عن الأشياء السلبية التي تخصّهم – مثل التجارب المزعجة التي مروا بها أو التحدّيات الطبيّة الصعبة التي يواجهونها. وعلى أرض الواقع، يزيد التفاؤل من ميل الناس إلى الصدق مع النفس، على الرغم من المخاطر المحتملة لذلك. وأنا أعتقد بأنّ الهدوء العاطفي النسبي والنظرة المتوازنة اللذين يرافقان التعاطف مع الذات يمكن أن يساعدا الناس في مقاربة التجارب الصعبة بموقف إيجابي.

القيادة المشحونة بطاقة إيجابية كبيرة

تنتجُ الذهنية القائمة على التعاطف مع الذات فوائد تمتد لتطال الآخرين أيضاً. ويصحّ هذا الأمر تحديداً في حالة الناس الذين يتولّون المناصب القيادية. ويعود السبب في ذلك إلى أنّ التعاطف مع الذات والتعاطف مع الآخرين هما أمران مترابطان، وممارسة أحدهما تعزّز الآخر. كما أنّ اللطف مع الذات هو بمثابة تمرين جيّد لمعاملة الآخرين بتعاطف، تماماً كما أنّ التعاطف مع الآخرين يمكن أن يزيد من مدى تعاطف الناس مع أنفسهم، الأمر الذي يخلق حلقة متكرّرة من التعاطف، وهي الأخرى عبارة عن ترياق لدوّامات “السلوك غير المتحضّر” الذي يشكّل أغلب الأحيان طاعوناً يعصف ببيئات العمل.

بما أنّ التعاطف مع الذات يشجّع ذهنية النمو فإنّ هذا الأمر يهمّنا أيضاً. فقد أظهرت الأبحاث بأنّه عندما يتبنّى القادة ذهنية النمو (أي الإيمان بإمكانية التغيير)، فإنهم سيكونون أكثر ميلاً إلى الانتباه إلى التغيّرات الحاصلة بين صفوف مرؤوسيهم، وإلى تقديم آراء تقويمية مفيدة حول كيفية التحسين. ويمكن للمرؤوسين، بدورهم، أن ينتبهوا إلى قادتهم عندما يتبنّون ذهنيات النمو، ممّا يجعلهم أكثر تحفّزاً ورضىً، ناهيك عن ميلهم الأكبر هم أنفسهم إلى تبنّي ذهنيات النمو. ومقولة “ضرب مثال يُحتذى” تنطبق على التعاطف مع الذات وذهنية النمو التي يشجّع عليها.

ثمّة ارتباط مشابه بين القائد والمرؤوسين فيما يخصّ الصدق مع الذات أيضاً. فالناس قادرون على تلمّس الصدق لدى الآخرين، وعندما يُنظر إلى القادة بوصفهم صادقين مع أنفسهم، فإنّ ذلك يمكن أن يُشيع جوّاً من الصدق مع النفس في أرجاء بيئة العمل. وثمّة براهين ملموسة على أنّ علاقات أوثق تنشأ عندما يشعر الناس بالصدق في علاقاتهم مع الآخرين.

عندما يتجاوب القادة مع حالات الفشل والنكسات بذهنية التعاطف مع الذات، فإنهم هم أنفسهم يستفيدون، ويكونون أقرب إلى إظهار الميول النفسية والسلوكية التي تساعدهم شخصياً في تحقيق النجاح والتطوّر المهنيين. ويمكن لهذه الفوائد أن تمتد لتشمل المرؤوسين، ممّا يجعل ممارسة التعاطف مع الذات أمراً مربحاً للقادة وللناس الذين يعملون تحت أمرتهم في الوقت نفسه.

تعزيز التعاطف مع الذات

ليس تعزيز التعاطف مع الذات بالمهمّة المعقّدة أو الصعبة. وإنّما هي مهارة يمكن تعلّمها وتطويرها. وبالنسبة للأشخاص الذين يتمتّعون بذهنية تحليلية، أقترح استعمال تعريف علماء النفس للتعاطف مع الذات كقائمة تدقيق مؤلفة من ثلاث نقاط: هل أنا لطيف مع نفسي ومتفهّم لها؟ هل أقر بأنّ العيوب وحالات الفشل هي تجارب يمر بها الناس جميعاً؟ هل أترك مشاعري السلبية تسيطر على نظرتي؟ فإذا لم يكن ذلك ناجحاً، ثمّة “حيلة” بسيطة يمكن أن تساعد أيضاً: أجلس واكتب رسالة إلى نفسك بصيغة ضمير الغائب، كما لو أنّك صديق أو أحد أحبائك يوجّه رسالة إليك. فالعديد منّا يجيدون الوقوف إلى جانب أصدقائهم أكثر من الوقوف إلى جانب أنفسهم، وبالتالي فإنّ هذا يمكن أن يساعد في تجنّب دوّامات اتخاذ موقف دفاعي أو السقوط في فخ جلد الذات.

بذل قطاع الأعمال عموماً جهداً ناجحاً في إزالة الوصمة المحيطة بالفشل في السنوات القليلة الماضية على المستوى المؤسسي، حيث بات الفشل يُعتبر نتيجة طبيعية للتجريب، وفي نهاية المطاف، الابتكار. لكن كثرة منّا لا يسخّرون هذه القوّة الإنقاذية للفشل في حياتنا العملية الذاتية. ومع تعرّض أعداد متزايدة من الصناعات والقطاعات إلى الزعزعة، ومع تعرّض الحياة العملية للناس إلى اضطرابات كثيرة تعصف بها، فإنّ أهمية هذه المهارة سوف تتزايد.

إذا كنت تعاني في تعزيز التعاطف مع الذات في حياتك المهنية والشخصية، لا تقسُ على نفسك في هذا الخصوص. بل بقليل من الصبر يمكنك أن تحقّق نتيجة أفضل.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .